«العنقاء الكبرى» وكذبة تبادل المعلومات عن الإرهاب: سجن «بوكا» في قرص مدمج
| فرنسا- فراس عزيز ديب
كانَ لفظ العنقاء ولا يزال إحدى أكثر القصص الخيالية إلهاماً لكل من يمتلك إرادةَ النهوض من بعدِ السقوط، ليخرجَ من تحتِ رماد الهزيمة ويستحيلَ كتلة من نار تحرق من يقف في طريقه. لكن الولايات المتحدة ومن يلوذ بها تصر دائماً على تشويهِ كل ما لهُ علاقة بالمعاني السامية والجامعة عندما تستخدمها كعناوينَ رنانة وملفتة لملفات قذرة، من بينها لفظ «العنقاء».
في عام 2008 أطلقت الولايات المتحدة اسمَ «العنقاء الكبرى» على الأعمال القتالية التي أطلقتها بمشاركة القوات البريطانية في عدد من المحافظات العراقية المحتلة، والتي هدفت حسب زعمها إلى ملاحقةِ قيادات في الصف الأول والثاني لما يسمى «تنظيم الدولة في العراق»، يومها تحدثَ البنتاغون عن اصطياد عدد كبير من قادة التنظيمات الإرهابية أبرزهم هو المصري عبد المنعم البدوي الملقب بـ«أبي حمزة المهاجر» والذي كان يعتبر أحد الأذرع الضاربة لأيمن الظواهري في العراق، والذي خلف «أبي مصعب الزرقاوي» بعد مقتلهِ في عام 2006. اليوم يبدو بأن هكذا سيناريوهات بعناوينَ رنانة هو حاجة أميركية مع تبدل بالمعطيات والأسلوب ليتوافق مع التطور التقني الذي يعيشه هذا العالم المجنون، فما الجديد؟
نهايةَ الأسبوع الماضي، نشرَت صحيفة «لوموند» الفرنسية تقريراً تحدثت فيهِ عن الحربِ السرية التي تخوضها الولايات المتحدة مع الحلفاء لتشكيلِ بنك معلومات واحد يتضمن كل ما تمَّ الحصول عليهِ من بيانات ومعلومات ومقتنيات لإرهابيين ومتطرفين أسمتها بـ«العنقاء الكبرى»، بنك المعلومات هذا سيكون متاحاً لكل دولة تشارك بهِ.
في الإطار العام لا يمكن لعاقل أن يقفَ في الصفِّ المعارض لأي جهد دولي يهدف إلى محاربة آفة العصر، ولكي لا نعطي جواباً مباشراً عن الهدف من عملية كهذه، علينا أولاً الإجابة عن الأسئلة التالية:
أولاً: هل من تعريف واضح للإرهاب؟
الفكرة من ضرورةِ وجود التعريف ليسَت مجردَ ترف فكري، فالقاعدة القانونية مثلاً تبدأ بتعريفِ الفعل الجُرمي وتوصيفهِ ليصبح توصيف المجرم تحصيلَ حاصل بالقياسِ إلى الفعل. في حالةِ الإرهاب لا تكمن المشكلة بأننا لا نمتلك تعريفاً واضحاً فحسب، وكمثال بسيط عندما يخرج إرهابي ليفجر نفسهُ وسطَ الأبرياء فهو فعل إرهابي لكن لماذا لا يكون كذلك عندما يخرج متطرف ليقتل الأبرياء في مسجد؟! المشكلة هي في رفض الدول ذات الثقل الدولي بوجود هذا التعريف من أساسه، هنا تبدأ لعبة استخدام الإرهاب بدلاً من محاربتهِ، هنا تصبح الانتقائية في التوصيف سلاحاً يحاربون بهِ من يشاؤون، فالمقاوم الذي يستهدف تحريرَ أرضهِ من دنسِ المحتل يصبح في ذاتِ المكانة مع الذي يقتل الأبرياء بهدف الدخول إلى الجنة، فقط لأن مقاومتهِ لا تروق لهم. ماذا عن احتلالِ الدول وانتهاك سيادتها وسرقة خيراتها أليسَ هذا التصرف هو إرهاب دولي؟
على هذا الأساس وبغيابِ تعريف واضح ومحدد للإرهاب تصبح الحرب عليهِ عند من يرفضون تعريفهِ أشبهَ بمحاولةِ جمع الماء في الغربال لا أكثر.
ثانياً: تعاون دولي أم تكاذب دولي؟
قبلَ أيام، أعلنت وزارة العدل الأميركية عن توجيهِ الاتهام للمترجمة السابقة في البنتاغون مريم تومسون بتسريبِ معلومات سرية لمصلحة «حزب الله» اللبناني، اللافت بأن التصريحات الرسمية والإعلامية تناولت الموضوع من مبدأ «وصول معلومات سرية إلى إرهابيي حزب الله». هذا الحدث على أهميتهِ كان أشبهَ بالصفعةِ لأمنِ المعلومات الأميركي، لكن لابد من التركيز هنا على فكرةِ وصمِ حزب الله بـ«الإرهابي»، من هنا قد نعلم بأن فكرةَ التعاون الدولي بما يسمى الحرب على الإرهاب هي ساقطة أساساً وليست ممكنة، إذا كانوا هم فيما بينهم أساساً منقسمين على توصيف الحزب.
بالوقت ذاته لا يمكن لهكذا أفكار أن تتجسد واقعاً دون وجود الدول التي لها باع طويل في الحرب على الإرهاب كسورية وروسيا، إن كانت النية فعلياً صادقة. فسورية التي تحارب منذ أربعةِ عقود هذا الإرهاب يبدو بأنها تمتلك الكثير من المعلومات التي تُزعج من يدَّعي فعلياً محاربةَ الإرهاب بل تدينه، تحديداً أن بدايةَ الحربِ على سورية مثلاً، شهدت مشاركة واسعة لقياداتِ «تنظيم القاعدة في المغرب العربي» في القتال ضدَ الجيش العربي السوري، بعدَ وصولهم إلى إدلب بمساع من الإرهابي الليبي «المهدي حاراتي» وتسهيلات قدَّمها النظام التركي، فهل يعتقد البعض أن الاستخبارات السورية لا تمتلك ما هو أبعدَ من «مجردِ معلومات»؟!
في الواقع فإنَّ المشكلة لا تكمن في الولايات المتحدة لأن وضعها ميئوس منه وهي أساساً بعيدة كل البعد عن تأثيرِ هكذا إرهاب، المشكلة هي ببعض الدول الأوربية التي كانت ولا تزال ترفض فكرة تبادل المعلومات على الأقل لحمايةِ شعبها من خطرِ الأفواج الإرهابية التي فيما يبدو اقتحمت الحدود الأوروبية عبر استغلالِ أفواج اللاجئين، ليصبحوا خلايا نائمة ينتظرون ساعة الصفر. إنَّ غياب هكذا تعاون لا يقودنا فقط للتأكيد بأن ما يجري هو مجردَ تكاذب دولي وليس تعاوناً دولياً، بل يفتح الأبواب مشرعة نحو الهدف من كل هذه البهرجة الإعلامية، وبمعنى آخر: هل تكون الفكرة فعلياً مقدمة لانتفاء الحاجة إلى الإرهابيين؟
في السياقِ العام لا يمكن لنا أن ننتظرَ من المجرم أن يتخلى عن أداةِ إجرامه، ربما هو يحاوِل عملياً في كلِّ مرة إعادةَ تحديثِها وجعلها مناسبة أكثر للفترة القادمة، لكن المجرم يبقى مجرماً والأداة ستبقى أداة. من هذا المنطلق تبدو فعلياً خطورةَ هكذا تحديث، فالتجربة علمتنا بأنَّ الاحتلال الأميركي الذي أسس سجن «بوكا» في العراق لتجميع المعتقلين على خلفيات متطرفة أو إرهابية، جعلَ من هذا السجن بؤرة لتفريخِ الإرهابيين واستخدامهم عند الطلب، بعضهم أصبح من قيادات تنظيم «داعش» الإرهابي وعلى رأسهم المجرم «أبي بكر البغدادي». اليوم لا تبدو الولايات المتحدة بحاجة لمثل هكذا أسلحة قادمة من مجاهل الصحراء، هي ببساطة تريد استبدال سجن «بوكا» الذي كان مفرخة للإرهابيين بقرص مدمج، تكون قادرة متى تشاء على استخلاص الشخصيات التي تريدها، ويكون من السهل عليها عملياً تسويق تلك الإمعات لأنهم سيكونون حسب الصياغة الأميركية قد خضعوا لإعادة تأهيل تماماً على طريقةِ المجرم «أبي محمد الجولاني»، بالسياق ذاته فإن هذا البنك المزمع إنشاؤه يتضمن حتى تحليل الحمض النووي لكلّ من وقعت يده على مقتنيات الإرهابيين، وما قد يتضمنه مستقبلاً من توزيع اتهامات هنا وهناك تطول من يعتقدون بأن حمضهم النووي لا يناسب تطلعاتهم في المنطقة.
في الخلاصة: لا يمكن الحديث عن محاربةِ الإرهاب دونَ الحديث عن تعاون دولي لا يستثني أحداً، الهدف من عدم الاستثناء هو وضع الجميع أمام مسؤولياته، إذ لا يمكن لكَ أن تصف الإخوان المجرمين في المنطقة أو تنظيم القاعدة في أفغانستان بالإرهابي، ومن ثم تقوم بتجميلهِ في سورية بل الاستماتة لدمج قياداتهِ بالحل السياسي، وبمعنى آخر: إذا كانت قاعدة البيانات التي يريدون الحصول عليها للإرهابيين تتضمن حتى تحليل الحمض النووي، ماذا لو أصبح الإرهابي الجولاني أو أحد إرهابيي «جبهة النصرة» الذين عالجهم بنيامين نتنياهو في مشافي فلسطين المحتلة وزيراً في الحكومة السورية، وقرَّر القيام بزيارة إلى فرنسا مثلاً؟
من هذهِ النكتة يمكننا فهم ترويج كهذا ساقط للحرب على الإرهاب، لكن هذا لا يمنع أن نعد العدَّة منذ الآن للهدف الحقيقي من هذه الفكرة، فكما أن فكرة «العنقاء» التي تجسد نهوضنا من تحت الرماد لن تموت، علينا أن نتذكر أيضاً بأن «سجن بوكا» أيضاً فكرة، والفكرة لا تموت!