ثقافة وفن

المثقف والسلطة علاقة ملتبسة … لم تكن السلطات العربية بريئة من تهشيم الثقافة والمثقفين

| إسماعيل مروة

إن كانت علاقة شوقي ذات إشكالية، لأنها كانت بالسلطة العثمانية، وهي سلطة غريبة، بغض النظر عن أصول شوقي نفسه، والتي تجتمع مع الأكراد والكرد، إلا أنه حسم الأمر، وكان لصالح مصر بالتعبير الوطني ولصالح القضايا التحررية العربية من سورية إلى ليبيا فالمغرب.. إن كانت هذه العلاقة إشكالية، فقد بدأت العلاقة تكون ملتبسة بعد وجود الحكم الوطني، ففي عام 1952 بعد ثورة الضباط الأحرار عادت مصر في حكمها لأبنائها بعد غربة طويلة من محمد علي إلى فاروق، والمؤمّل أن تصبح العلاقة أكثر متانة وقوة، فما الذي حدث؟

الثورة والشعب والأدب

والأدب هنا أعني به كل جانب من جوانب الحياة، الشعر والغناء والمسرح، فبعد أن غادر أبو خليل القباني دمشق، وترك بيته في كيوان، وصار مسرحه رماداً، صار من المفترض في ظل الدولة الوطنية أن يتغير الأمر، فهل كان ذلك؟ وبعد أن كان خير الدين الزركلي لصيقاً بالرئيس شكري القوتلي في مرحلة النضال ضد الفرنسيين، ودفع أثماناً باهظة، جاءت الدولة الوطنية، ولكن السر الذي لم أعثر له على جواب، حتى من المقرب من شكري القوتلي، عبد الله الخاني رحمه الله، هو لماذا تعذّر على الزركلي أن يعود إلى دمشق وسورية، أو لماذا منع من العودة؟ وفي عام 1969 ترغب الدكتورة نجاح العطار في محاورته، فيكون الحوار في بيروت! ويغادر مع الأحداث بيروت لا إلى دمشق، وإنما إلى القاهرة ليمضي ما تبقى، ويموت غريباً ويدفن هناك! لماذا كان هذا؟ وهل العلاقة بين المثقف والسلطة بهذه الدرجة من الخطورة؟ وهل يشكل المثقف خطراً على السلطة حتى تنفيه أو تبعده أو تسجنه أو تفعل معه ما يحلو لها؟

وبعد الثورة في مصر جاءت الدولة الوطنية، وجاء حكام مصر من أبنائها، فتغنى نجيب محفوظ بداية، وأنشد صلاح جاهين، ونظم عبد الرحمن الأبنودي، وهلل توفيق الحكيم، وانتظم الجميع في إهاب الدولة الوطنية، فما الذي حصل حتى تغير محفوظ، وانقلب الحكيم في عودة الروح، وصمت جاهين، وسجن الأبنودي؟ هذا وغيرهم كثير من الأحزاب السياسية اليسارية والدينية على السواء!

هل صحيح ما قالته ا لسلطات عن طموح الأحزاب؟

هل الخلاف حزبي؟

هل الخلاف شخصي؟

هل كانت السلطات بريئة مما حدث؟

ألا يمكن أن ينظر إلى الأمر نظرة أخرى، وهي إن في السلطة مجموعة من الأفراد الذين يملكون طموحاً وفردانية ولا يريدون لأي شخص مميز أن يكون بينهم؟ ألا يوجد لدى الأفراد المثقفين أحلام خاصة وعامة يريدونها أن تتحقق؟

من المؤكد أن الأبنودي الذي نظم (أحلف بسماها وبترابها) لم يكن يطمح أن يكون وزيراً أو مسؤولاً، وصلاح جاهين صاحب (السد العالي- صورة) الذي يعيش يساريته بكل حب وشغف لم يكن ليطمح أن يكون مشاركاً في السلطة، لكن ما صنعه بروحه، وعاطفته ودمه، وجده يضيع بين أقدام الفاسدين الذين استغلوا السلطة، فتاهت البلاد مع أحلامه، وآثر الصمت، فصمت حتى مات، والأبنودي الذي كان وطنياً وذاق مرارة سجن الدولة الوطنية، بكى من أجلها، وبكى على عبد الناصر، وكان أكثر انتماء لمصر ممن اختاره عبد الناصر صهراً أو نديماً أو مقرباً، ترى لو عادت الأمور ماذا سيكون من أمر هذه العلاقة؟! من المؤكد أنها ستتكرر مرة أخرى، ولن يتغير الأمر..

بماذا استبدلوا؟

المثقفون المنتمون لا ينتمون إلى الأشخاص، وإنما ينتمون إلى الأوطان، ويكون الأشخاص الرموز جزءاً من الأوطان، لذلك كانت (صورة) معبرة عن الوطن (الصورة اكتملت) ولذلك لحن عبد الوهاب وطني حبيبي الوطن الأكبر، ولذلك تغنى حليم والطويل بالسد العالي كمنجز وطني، ولذلك كتب جاهين أغنيته الرديئة، لكنها المعبرة (يا عديم الاشتراكية) هي لا تناسب الذوق الرفيع، لكنها تلائم فكره ويساريته وتوجهه الفكري.. مثقفون فتحوا أعينهم على دولة وطنية لأبناء يرونهم منهم، لذلك أبدعوا، والدول الوطنية في سورية ومصر والعراق تحديداً، وبناء الدولة الوطنية أعطى إحساساً كبيراً بالعظمة والتفوق، وهذا ما أنتج شعراً عظيماً يحمل مضامين فكرية، ولحناً عذباً ثورياً، وثقافة مميزة من خلال مشروعات تنويرية رائدة، ومجلات ومنتديات وغير ذلك، لكن السلطات العربية كان لها رأي آخر، فقد أوقفت كل ذلك بقرار، ومن ثم اختارت من وصفهم صلاح جاهين (منطبلك كده هو) ومن هنا نشأت طبقة من مثقفي السلطات الذين لا يملكون زاداً معرفياً أو ثقافياً، ولا يحملون انتماءً، فهم قادرون على لعب الدور الذي تريده السلطة! وقادرون في الوقت نفسه على الانقلاب على هذه السلطات ساعة يشاؤون، أو ساعة يتغير الزمن!! أما رأينا من انقلب على عبد الناصر بعد أن كرمه مثل توفيق الحكيم ومصطفى أمين وسواهما، مقابل من بقي محباً دون أن يكون مقرباً مثل الأبنودي؟

أما رأينا بعد مغادرة مبارك كيف انقلب المقربون إليه عليه وصاروا يتحدثون بأسرار كانت وأخرى لم تكن؟

بينما المنتمون الحقيقيون، قالوا أمراً آخر، وفي أسوأ الأحوال لاذوا بالصمت لما آلت إليه الحال؟

أما رأينا وسمعنا من انقلب على نظام البعث وصدام، وكان من المدللين المثقفين، لكن الذين انتموا للعراق قالوا شيئاً مختلفاً عن العراق ووحدته وصدام؟ لي شخصياً قال الدكتور مصطفى جمال الدين: درست وتعلمت، وكنت في جامعات العراق، ولم يطلب مني أحد أن أغادر، لكنني اخترت المغادرة لأسبابي الفكرية، ولا أقبل أن يستباح العراق أو يقصف؟ بينما عدد من المقربين ظهروا على الشاشات وكتبوا يطلبون تدمير العراق!
وفي التجربة السورية المريرة ألم نتابع المدللين الذين صنعتهم السلطات، وهم يستعدون للاحتفال فيما إذا ضربت سورية أو تم احتلالها؟ فهذا أعطته سورية كرسياً في الجامعة للتدريس، وهذا جعلته وزيراً، وهذا جعلته نجماً، وهذا كرسته كاتباً، وهذا وهذا.. وعندما يأتي ميزان النقد الحقيقي، فإن تراثهم لا يساوي قصاصة ورق، لكن الزمن صنعهم على مقاسه! ومع ذلك فإن هذه العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة مستمرة، ولم تتغير، ولن يطولها أي تغيير، فلكل وقت منطقه، ولكل مرحلة من ينتهزها، ولكل سلطة المثقف الذي تختاره.. فلماذا لا يتم فك الاشتباك، وإنهاء الالتباس مع المثقفين والمؤسسة الدينية على السواء، فالمثقف له رأيه الذي يحترم، سواء أخذوا بهذا الرأي أم لم يأخذوا، من حقه أن يكتب، أن يبدع، أن يفكر، نعطيه الحرية الكاملة في أن يكتب ويبدع ويقدم رؤاه، يناقشونه في الأشياء التي يبدعها، يفسحون له المنابر ليقول، بدل أن يتهرب أو يهرب أو يقول في الخفاء..

أغلب مثقفينا أو على الأصح، من يعمل في الثقافة، إما أنهم من الموظفين غير المبدعين، أو من مثقفي السلطة الذين صدّقوا أنهم على قدر عال من الإبداع، ويتحلقون لتقويم نزار وأدونيس ودرويش، وهم لم يقرؤوا نصاً من نصوصهم، أو من المثقفين الذين حملوا عصا الترحال وغادروا بلدانهم العربية حسب تعبير أدونيس!

الأمر ببساطة أن يحدث لدينا ما يحدث في الغرب، فاللعبة في يد الكبار، الدولة أو الشركات أو غير ذلك، وكل ما يدور من علم وثقافة وأدب وبحث ممول ببذخ، وهو يعود إلى المؤسسات الراعية، ومثال فوكوياما وهانتغتون وحتى بريجنسكي واضح تمام الوضوح، فهو يعيش استقلاليته أو وهمها، ولكن كل ما يقوم به، سواء في مراكز الأبحاث أو الجامعات يصبّ في مصالح إستراتيجية، وهو يدافع عن هذه الاستراتيجية، لأنه يدافع عن بحثه، فماذا قدمنا لمراكزنا وجامعاتنا؟

ثمة فرق بين العالم الذي يقدر على تقديم شيء أو أشياء، طواعية، وبأنانية المبدع، وبين الموظف الطامح لأن يصبح مسؤولاً، وكل من خدم الثقافة الغربية، من جامعاتها إلى هوليود إلى مراكزها لم نسمع أنه صار وزيراً أو مسؤولاً، ولكننا نعلم أن الجميع ينتظر إشارته باحترام ولا يراه متسولاً على أبواب السلطات!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن