ثقافة وفن

غيوم أيمن زيدان تجريبية داكنة … فاجأ ذهنية المشاهد بقوةٍ لونيةٍ صادمةٍ وكلامٍ بصريٍ جديد

| نهلة كامل

شعرت بالضيق، حالما بدأ عرض فيلم «غيوم داكنة»، فالفضاء الفيلمي داكن، والعمق المشهدي ضبابي، ومسحة غبش مترافقة مع حوار دلالي مختزل، وللحظات خشيت تقنية العرض على شاشة سينما الكندي لأدرك فيما بعد أن هذا الإحساس هو ما سعى إليه المبدع أيمن زيدان، الذي لا تفتقر ثقافته السينمائية إلى الإحساس العالي باللون، والإيقاع الحركي السريع.. والفيلم من تأليفه مشاركة مع ياسمين أبو الفخر، وإنتاج المؤسسة العامة للسينما.

تجريبية سينما الحرب

أدركت أنني إذا اعتمدت الدخول إلى الفيلم من المفتاح اللوني للتأليف البصري، لا أبتعد عن دلالاته، بل أنساق وراء تقنياته التي اختارت التأليف التشكيلي للبيئة والإنسان معاً.

وقد ارتبطت مراحل الحروب العالمية، منذ بداية القرن الماضي بتجربة سينمائية، وأنتجت مدارس فنية وتيارات سينمائية خلاقة، ولعلنا إذا لم نقارب السينما السورية على ضوء المتغيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية للحرب، لن نستطيع الولوج إلى المفاهيم الدلالية والمشهدية التي اختلفت إلى حد التناقض أحياناً، ولم يستطع المخرج والسيناريست التعامل معها دون خلق جديد، وكذلك الناقد الذي ارتبكت أدواته المعرفية ما لم تستوعب لغته ما آلت إليه مشهدية الحياة والتشكيل الدرامي والبصري لنتائج الحرب وخساراتها وتطلعاتها.

وإذا اعتبرنا «غيوم داكنة» اهتماماً لخلق تجربة ارتبطت بسينما الحرب، و«اللون هو الفضاء الكوني والطاقة بالنسبة لجهازنا اللاقط للأمواج الضوئية الذي هو العين، فإن صور فيلم من الأفلام بلا معنى إلا بعلاقتها مع ذهنية المشاهد» كما كتب رالف ستيغنسون، فمن الواضح أن زيدان أراد مفاجأة هذه الذهنية بقوة لونية صادمة، ومحاورتها بكلام بصري جديد.

صرخات مكتومة

يبدأ الفيلم في إحدى مناطق الدمار الذي أنتجته الحرب، وينتهي داخلها، كأنها بقعة معزولة من عالم غائب، يسهل تصويرها وإدراك أبعادها، وحيث تعيش ثلاث عائلات، نجد الحياة الفيلمية متوقفة فاللون الترابي والبعد الضبابي ذاته، وليس في الزمن صباح أو ظهر أو ليل، ولا حركة في المكان إلا في المفهوم المعنوي لدخول أو خروج أحدهم أو سيارة، ما يزيد شعور المشاهد بالحصار الذي تعمده المرادف التشكيلي للواقع في الفيلم.

ولا يقدم الفيلم أحداثاً جديدة، بل ينطلق بعد الحدث المعروف، فوق نتائج الدمار في المكان والشخصيات، معتمداً على مشهدية مختزلة وكثيفة، يلعب فيها الاستخدام الدرامي للون دور البطولة، وتؤدي أسلبة المكان دور الكآبة، والضبابية انعدام الرؤى، وهي تسبغ دلالاتها على الحالات الإنسانية التي اختصرت بنية اجتماعية كاملة.

صرخة أرادها زيدان مذكراً بما قاله جون ميكاس، وفي ظروف تجريبية مشابهة، منذ عام 1962، في بيانه: «اترك للآخرين أن يحرصوا على التسرية عنكم بقصصهم الجميلة، أما أنا فإذا ما دفعني أمر لأن أغضب صرخت معبراً عن ذلك.. لماذا عدم استعمال السينما للصراخ؟

ولا ينحصر سياق الفيلم في إطلاق صرخة نهائية واحدة، بل صرخات مكتومة في فضاء راكد ويائس، تتناوب عليها شخصيات الفيلم بين جدران حصارها، فها هو الدكتور كامل، يلعب دوره الفنان وائل رمضان بعمق ونجومية لافتة، يعود ليموت صامتاً في قريته ومكان حبه الأول، مذكراً بالحالة التي لعبها أيمن زيدان في فيلم «مسافرو الحرب» لجود سعيد، وها هي حبيبته الأولى، تؤديها القديرة لينة حوارنة بصمت بارع الكلام.

إلى جانب زوجها المستلقي على فراش المرض، حيث يؤكد زيدان على دلالة استخدام الأجساد المسجاة على فراش الموت في حياتنا، كما في فيلمه الأول «أمنية»، إضافة إلى العائلة الثالثة حيث يوظف زيدان رمز الشهيد كنتيجة للحرب، لإطلاق صرخة بعمق الصدر، وقد أوصى والده المريض ابنه الأصغر بالزواج من زوجة أخيه رعاية واستمراراً لبقاء الأسرة، وبدل أن تكون عودة الشهيد المفترض، مبتور الساق، مفاجأة مفرحة تصبح صرخة نهاية، جعلت حضور جود سعيد، الذي يحبه زيدان ممثلاً، بطلاً منكسراً في حياة داكنة لم ينفع فيها فعل النجاة من الحرب، وقد أصبحت تحتاج إلى النجاة في الواقع.

شروخ أخلاقية

إن فعل الخلق السينمائي، لا يتشكل من حالات إنسانية استثنائية أو مجهولة، بل في ابتكار تشريح سينمائي لوجود رموز عامة في الحياة السورية الجديدة، وسلوكها المتخبط في دائرة أزمة لا تشير إلى انفراج، ويشير الفيلم إلى هذا بساعة متوقفة عن الدوران يسعى الأب إلى إصلاحها طوال الفيلم، فلا إعمار ولا حركة من الخارج المؤسساتي الغائب إلى الداخل الخراب، ولا قراءة للواقع إلا في سخرية رجل مجنون وربما سكير.

ولا يقدم الحب الذي أنتجه الدمار، حلولاً لفيلم أيمن زيدان، بل يسبر شرخ التشوه في المفاهيم الجديدة، فالعاشقة الوحيدة التي أحبت سائقاً لأنه يخرج من الخرابة، ينحصر عشقها وعلاقتها الجسدية معه في حلم الهجرة إلى ألمانيا، وعشقه لها بالحصول على مال أخيها المريض، ويحولها إلى مجرمة تسرق أخاها وهو على فراش الموت.

أيضاً لا ينقذ مفهوم الحب المنتمي إلى زمن العاطفة الجميل، دلالات الخسارة الأخلاقية، بل يضيف إلى حجم الفقدان الكبير في حياة الدكتور كامل الذي لم تستلب الحضارة الغربية روحه، وإلى حالة حبيبته الأولى التي تعيش على ذكريات حبها القديم.

ويحسب لسردية الفيلم توظيفها المجازي للرسائل القديمة المتبادلة بين الحبيبين، لتغليف الحدث بمسحة شاعرية، عمقت الشعور بالأبعاد الدفينة لشخصيات كانت تتوق إلى الحياة والحب والحرية، عبرت عنها موسيقا العين التي رافقت الإيقاع البصري، تأليف الموسيقي المبدع سمير كويفاتي، وجعلت انبعاث الكمان نزيفاً متواصلاً، وصوت البيانو نبضاً داخلياً مرافقاً لتبعثر رسائل الحب في حياة خاسرة.

كما أضاف توظيف الرسائل درامياً دلالة تسند مفهوم تسرب الأحاسيس من حياة تنجرف إلى موت مفاهيمي تقليدي دون تحقيق ولادة جديدة، وجعلت الدمار مرادفاً لانهيار قيم مجتمعية، خالقاً توتراً داخلياً شاعرياً تعويضاً عن الأحداث السريعة، والحوار الاتهامي اللاذع، وراسماً خطاً بيانياً للفقدان بريشة الألوان الداكنة.

حضور عالم غائب

يختار «غيوم داكنة» فضاء فيلمياً واسع التجريبية لمكان كثيف الدلالة، أراد تحويل العالم الخارجي الغائب إلى خلاصة الداخل الضيق المدمر، كجزء من المرادف التشكيلي للكل، فيبدع حواراً بصرياً تشكيلياً بالدرجة الأولى.

لقد جعلنا الاستخدام الدرامي للون نستشعر حالة عجاجية دائمة، أسهم فيها ذلك الغبش البصري، الذي طالما استخدمته تقنية السينما في أغراض فكرية ونفسية شتى، ذلك أن «ألواناً معينة تضفي تأثيرات نوعية على وجهة نظر المشاهد»، كما رأى إيزنشتاين، كأول منظر للسينما، مضيفاً أن للألوان قدرة على التعبير عن عواطف الروح بشكل كلام بصري، وذلك ما انتهجه زيدان في فيلمه الجديد.
وكان هذا الإحساس قد لعب دوراً بارزاً في إخراج فيلمه الأول «أمينة»، وشاهدناه بشكل أقل شمولية وتجذراً هناك، حيث أشار إلى انفراجات ضوئية عابرة، حتى في نهايته الآسرة حينما حلت أمينة مكان الثور على النورج في الحصاد.

لكن استخدام لون الدمار الترابي في غيوم داكنة، يتجاوز فيلمه أمينة، ويبلغ ذروة درامية دالة على خراب مقيم، وقد استخدم روبرت التمان اللون الأصفر للدلالة على الخطر والموت، وكان هذا هو مجال زيدان الأوسع الذي راهنت عليه التقنيات المحسوسة والكلام البصري، ما يؤيد ملاحظتي بأن هذا الإحساس السينمائي استطاع الوصول إلى المشاهد مهما كانت ذهنيته وردود أفعاله قبولاً أو رفضاً أو إعجاباً.

ويستثمر الفيلم موهبة إدارة أيمن زيدان المميزة للممثل، في تأييد هذا الإحساس، كما يحسب لطاقم العمل كله هذا التناسق الجماعي في الأداء على خلفية لونية قاتمة، حصرت الإشعاع الروحي الداخلي للشخصيات في وجوه عميقة التعبير.

يدخل المتفرج، مشاركاً، بنيوية حصار فيلمي لا خروج لأبطاله إلا في الموت، الذي كان مصير أغلب شخصيات الفيلم نفسياً أو جسدياً، فلا يفسح لتمظهر قوالب أخلاقية أو وطنية جاهزة، فهل هو حكم نهائي بحياة سورية داكنة.
يعطي زيدان الحكم على لسان الشاهد، رغم عدم توازنه، بقوله الشمس لازم تطلع، مقارباً رؤية فيلمه من مفتاح الضوء والعتمة، وكأنه رد زيدان على القتامة، وأيضاً لدلالة اسم الطفل «نور»، ابن الشهيد الحي، مستقبلاً، إضافة إلى عنوان الفيلم وهو «غيوم داكنة»، وليس حياة داكنة والغيوم لابد أن تكون عابرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن