كثيرا ما اتخذ البعض مقولة رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرشل: «في السياسة ليس هناك عدو دائم ولا صديق دائم هناك مصالح دائمة»؛ مبرراً لانحرافات في خطاهم الإستراتيجية؛ أو غطاء لتحالفات مع أعداء لهم حيث تقتضي مصالحهم الشخصية، حال ذلك حال إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وما تتسارع به الأخبار عن سعي واشنطن لتبييض صفحة «جبهة النصرة» الإرهابية ومتزعمها أبو محمد الجولاني.
في الثاني من شهر شباط المنصرم كانت أولى المؤشرات على محاولات تعويم الجولاني، وإظهاره إلى العالم على أنه شخص- لا كما يخاله الكثيرون- إرهابي، فغرد الصحفي الأميركي مارتن سميث: «عدت للتو من لقاء بإدلب في سورية مع أبو محمد الجولاني، مؤسس «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة، تحدث بصراحة عن أحداث الحادي عشر من أيلول، وتنظيم القاعدة، وأبو بكر البغدادي، وداعش، وأميركا، وغيرها»، ليؤكد لاحقاً أنه لم يتعرض لأي مساءلة أو حتى استفسار من الجهات الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية عن الجولاني، على الرغم من أن واشنطن ترصد مكافأة مالية ضخمة لمن يقدم أي معلومة عنه!
تكررت المساعي مجدداً قبل أيام، وتم إدخال الجولاني إلى الولايات المتحدة بوساطة «فيزا» الإعلام، عبر مقابلة مع برنامج «فرونتلاين» الوثائقي لشبكة «PBS» الأميركية، والتي تحولت إلى منبر للجولاني من أجل الحديث أكثر عن مشاريعه المستقبلية، وتقديم التطمينات للجانب الأميركي بأنه ليس العدو المستهدف من إرهابه، وعمد زاعماً على تقديم نفسه وحركته «النصرة» على أنهم «معارضة معتدلة»، في محاولة لخلع ثوب الإرهاب!
من خلال تسارع الأحداث، وعمليات التوطئة، لقبول الجولاني بحلة جديدة، يبدو أن بايدن بدأ الأخذ بنصائح وتعليمات الأوساط الضاغطة في أميركا، حيث اعتبر المبعوث الأميركي السابق إلى سورية جيمس جيفري في لقاء سابق مع سميث، أن «هيئة تحرير الشام» التي تتخذ منها «النصرة» واجهة لها، هي الخيار الأقل سوءاً من بين الخيارات المختلفة بشأن إدلب، بعد أن أقر أنها كانت مصدر قوة إستراتيجية للولايات المتحدة في إدلب.
وجيفري ليس الوحيد الذي أشاد بـ«النصرة»، بل إن «مجموعة الأزمات الدولية»، قدمت نصائحها للإدارة الأميركية الجديدة بالقول: «إذا كانت إدارة بايدن تسعى إلى تصحيح السياسة الخارجية المفرطة في استخدام القوة العسكرية التي تنتهجها واشنطن، فإن هناك فرصة لإعادة تعريف إستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب تكمن في إدلب».
من المعروف أن ثمة؛ جهات عدة تتدخل في رسم السياسة الأميركية الخارجية؛ بدءاً بالدولة العميقة مروراً بالقائمين على شركات صناعة الأسلحة؛ ومراكز الدراسات الإستراتيجية؛ وليس انتهاء باللوبي الصهيوني؛ وما نشهده من تناقض في سياسة بايدن إزاء سورية، لجهة التجاهل في خطاباته؛ والسياسة الميدانية؛ يكاد يجزم المرء أن هناك جهتين ترسمان السياسة الأميركية في سورية.
لم يتأخر الجولاني في تلقف المبادرة، وسارع إلى تقديم أوراق اعتماده إلى الإدارة الأميركية، من خلال اعتقاله 6 مسلحين من عناصر وقيادات تنظيم «حراس الدين» الموالي لتنظيم «القاعدة»، في مدينة إدلب ومناطق القنية والحمامة واليعقوبية في ريف جسر الشغور غرب إدلب، في رسالة جوابية مفادها، نحن «تنظيم معتدل، نقف في وجه التطرف والجهادية»!
غاب الملف السوري عن خطابات بايدن؛ ليتقدم عليه في الأجندة الأميركية الجديدة، أقله خطابياً، كل من الصين وروسيا والملف النووي الإيراني؛ حتى خال بعض المراقبين، أن ثمة انعطافة كبيرة حدثت في دروب السياسة الأميركية إزاء سورية، الأمر الذي أربك حلفاء مقربين، ومرتزقة مأمورين، وجعل «الخصوم» ممن خبروا مكر الساسة الأميركيين متمسكين بقناعتهم أن جميع الإدارات الأميركية تعود إلى أس واحد، وأن الحكم يكون على الأفعال لا الأقوال.
أكثر المتوترين من سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، هو النظام التركي، الذي قُوبل بتهميش وتجاهل كبيرين من جانب الرئيس بايدن، واستغربت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية التجاهل الكبير من بايدن لرئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، وقالت: «إن بايدن أجرى في شهره الأول محادثات هاتفية روتينية مع زعماء العالم فيما لا يزال أردوغان ينتظر اتصالاً لم يحدث»، هذا التوتر من النظام التركي، يمكن استغلاله من كلا الطرفين، الأميركي والتركي، فيمكن لأميركا أن تساوم أنقرة على علاقات جيدة، مقابل مساعدة للضغط على «هيئة تحرير الشام» من أجل اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تعالج المخاوف المحلية والدولية، والانتقال إلى أهداف واضحة تمكنها من التخلص من علامتها الإرهابية، وهو ما قد يرى فيه التركي فرصة للعودة إلى تحت العباءة الأميركية، واستخدام الأمر ورقة ضغط وابتزاز، إزاء قضايا خلافية أخرى.