ثقافة وفن

المثقف والسلطة علاقة ملتبسة … الشرط الأول للإبداع والبحث هو الحرية فهل تحقق هذا الشرط؟! .. أنصاف أميين وليس أنصاف مثقفين هو نتاجنا اليوم!

| إسماعيل مروة

يجب ألا يفهم من وجود العلاقة الملتبسة بين السلطة والمثقف بأن السلطات هي التي تسعى وحدها لجعل المثقف تابعاً لها، فالعلاقة تقوم بين طرفين أحدهما يملك القوة والسلطة، والثاني يملك الصوت والكلمة، شاعرة أو ناثرة، أو يملك الريشة أو ما شابه ذلك من ميزة حوّلته إلى شخصية عامة، قد تجعلها طامحة إلى السلطة، والخيط الرفيع يكمن في حنكة السلطة على أن تبقي المثقف هادياً ونقطة علام للمجتمع، وفي قدرة المبدع على أن يكون مبدعاً بذاته.

التوثب والإبداع

تقول كتب التاريخ، وهي صادقة حتماً بأن أبا فراس الحمداني وهو الشاعر الكبير كان يملك طموحاً لأن يصبح حاكماً مطلقاً، وهذا الطموح جاءه من طرفين اثنين، أولهما انتماؤه الأسري، فهو ابن عم سيف الدولة، يعني أنه سليل الأسرة الحمدانية الحاكمة، وثانيهما يأتي من فروسيته وشاعريته فهو شاعر كبير، وفارس خاض المعارك من أجل الدولة الحمدانية، وجرّب الإمارة، ولكن طموحه كان أكبر تجاه السلطة، لذلك كان توثبه للسلطة قوياً وبارزاً، وصار مكشوفاً لدى ابن عمه سيف الدولة، وحين أسر الروم أبا فراس تأخر سيف الدولة بافتدائه، وعلى الرغم من كل التفسيرات إلا أن التفسير الأكثر قوة وبروزاً هو أن سيف الدولة أراد أن يخفف من غلواء ابن عمه، وأن يحدّ من طموحه ومنافسته، وربما انقلابه عليه وعلى الحكم.
والمتنبي كان يطمح للولاية، لذلك أشار إلى أنه يطمح أن يعود من مصر على العراقين والياً، لكن سيف الدولة وكافوراً على السواء أوقفا طموح الشاعر بالوصول إلى الإمارة، وكانت غصة عند المتنبي، لكنها فاضت شعراً عظيماً أهم من كل الإمارات التي كان من الممكن أن يكونها، وابن زيدون وخلافه مع ابن عبدوس كان من أجل السفارة والوزارة، وشغل ابن زيدون الأمرين، لكن بقاءه وخلوده كان في رسالته الشعرية، وليس في الحكم، لأنه يفيض شعراً وصورة، ولا تشكل القضية السياسية وانخراطه في الحكم سوى مرحلة مريرة غمّسها السجن بالألم واللوعة.
وهناك مثال قلما نتداوله هو مثال أسامة بن منقذ الشاعر الفارس، فقد كان ابن عمه حاكماً لقلعة شيزر في حماة وأعطاه الكثير وصار الرجل الأول، لكن ابن عمه خوفاً على الحكم نفاه، وترك الأمر لابنه الصغير فيما بعد، وما هي إلا أيام بعد نفيه، إلا وجاء الزلزال المدمّر الذي لم يبق أحداً في شيزر، وكان أسامة في دمشق، فجلس عمره يبكي على ابن عمه وأهله وشيزر، وعمّر حتى التسعين ليدفن في جبل قاسيون.. وإضافة إلى ذلك فإن أسامة قدّم كتاباً عظيماً ووحيداً هو (الاعتبار) هو الوحيد في بابه الذي يتحدث عن الوجود الأوروبي في المنطقة، والذي لم ترد فيه كلمة الصليبيين ولا مرة، وإنما كان يسميها حروب الفرنجة، وقد قدّم شهادات مهمة عايشها وهو القائد والمقاتل عن المرحلة والحروب، وعن إيجابيات بعض القادة الأوربيين… بقي أسامة بن منقذ، وذهبت شيزر، وذهب ابن عمه الذي نفاه، فكانت إمارته الحقيقية هي في الشعر والأدب والتصنيف، وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون تزجية للأيام، ومحاولة للوصول إلى شيء جهله هو، ويريد أن يكون فيه..!

حكمة السلطة وتقديرها

في ذلك اليوم البعيد كان سيف الدولة حكيماً، أبعد المتنبي ولم يؤذه، ولم يعنفه، ولم يعده، ولم يتنصل من وعد له، وأعطاه وكفاه، وأسبغ عليه من المال والحظوة ما لا يقدر، وأعطاه مكانة عليا في مجلسه إلى جواره، وفضله على الآخرين بما في ذلك ابن عمه الشاعر.. وأبو فراس خرج من الأسر ليكون شاعراً، وأسامة بن منقذ ليرثي أحبابه، ويكون شاعراً وحكيماً ومجيداً.. وعبر الزمن نجد مثل هذه الطموحات لدى المبدعين، خاصة لدى البيئات العربية، وقلما نجد ذلك في بيئات أخرى، فلم نجد تولستوي وهو الغني يسعى لبلاد قيصر، ولم نجد سارتر ولا هوغو ولا همنغواي، وحتى يكون الأمر واضحاً فإن المبدعين في تلك الأماكن يخضعون لفلسفة الحياة عند أرسطو ويرون أنفسهم، في مكانة عليا قد لا يصل إليها أصحاب الحكم! لذلك جاء إبراهام لنكولن ليزور هربيت ستاو بعد كتابتها (كوخ العم توم) بكل إجلال وتقدير، الحكمة تمثلت في أن الطبقات الحاكمة صنعت، ويجب أن تصنع عالماً خاصاً للمبدعين الحقيقيين، وتحافظ على هذا العالم، لأنه سيكون داعماً للسلطة والحكم، وقارئاً ومستشرفاً لمرحلة ما بعد اليوم الذي نعيشه، فالمبدع الحقيقي هو ذاك الذي يقرأ ويستشرف، ويقدم الرؤى التي لا تتوجه للحاكم بشكل مباشر، وإنما توجه للبيئة والناس والحاكم ضمناً، وكل ما يتم التوجه به إلى الحاكم مباشرة هو إبداع ضحل لا قيمة له وغايته الارتزاق والوصول إلى مكانة، وتاريخنا يشهد بهذه الحالات التي ينطبق عليها قولنا (أشهد أن قفاك قفا كذاب).

وفي كل يوم نشهد العشرات الذين يتوجهون إلى الحكام، وفي الوقت نفسه لو وجدوا في النقيض منفعة ومكانة ومكسباً فسينحازون إلى ذلك النقيض، وقد يجدون المسوغات لذلك، ويحاولون صناعة صك براءة لما قاموا به، وأنهم كانوا مجبرين!! فمتى كان المبدع مجبراً؟ وهل يحق لمن يقع تحت ضغط الجبر والاختيار أن يكون مبدعاً؟ من المؤكد أن في الأمر خللاً يدركه الطرفان، ولكنهما يمارسان لعبة ترضي الطرفين، لكنها تصل إلى الحضيض بالإبداع والأدب.

الانتفاع والأحكام الجائرة

لا يستطيع أحد أن يزعم أن طبقة الحكام بما لديها من مهام ومسؤوليات تعرف كل شاردة وواردة، وخاصة عن الإبداع والحرف، فقصيدة هنا وقصة هناك وبحث ثالث، ولكن هناك طرف ثالث هو الطرف المنتفع الذي يحسب نفسه على الإبداع تارة، وعلى الحكم تارات هو الذي يتحكم باللعبة، ويقدم صورة شوهاء للأدب والإبداع، ويقدم السلطة بشكل غير لائق، وربما يذكر الكثيرون وخاصة أن الحالة جاءت في مسلسل نزار قباني ما فعلته طبقة المنتفعين ضد نزار بعد قصيدته (هوامش على دفتر النكسة) وكيف قام نزار بمراسلة عبد الناصر، والذي يعنيني أن عبد الناصر في جوابه قال: لم أسمع بالقصيدة، ليس شرطاً أن يسمع بها، وليس من الضروري، لكن الأهم أن هناك من سمع، وادّعى السماع، وتمثل له الغضب من الرئيس، وأصدر القرارات باسمه ولولا ما فعله نزار لبقيت كتب التاريخ تقول: عبد الناصر منع نزاراً، ويتحول الأمر إلى بطولة على حساب أحدهم بمعية الطبقة من المنتفعين!

وصرخة الفلاحين في فيلم (زواج عتريس من فؤادة باطل) تطوعت الطبقة المنتفعة بتفسير العبارة على أن عتريس هو عبد الناصر وفؤادة مصر، واستلزم الأمر أن يعرض الأمر على عبد الناصر ليقول: اعرضوه لا شيء فيه.. ومع ذلك أصرّت طبقة المنتفعين ألا تعطي الفيلم حقه الذي يستحقه لأنه يسيء للرئيس!

كذلك رأت سلطة المثقفين التابعة للأنظمة، وفي هذين المثالين، وفي أمثلة عديدة في كل المناطق وصل الأمر إلى أعلى سلطة، فأنصف الإبداع، وأعاد إليه الاعتبار، ولا ندري إن كان رد الاعتبار ناتجاً عن خروج ذكي للسلطة العليا التي لم يعد بإمكانها السكوت والوقوف على الحياد، أم ناتجاً عن قناعات راسخة بضرورة إعطاء الإبداع حريته الكاملة، ولكن ألا يوجد عشرات، بل مئات الحالات التي لم تصل إلى ذروة الهرم السياسي، ما أدى إلى ظلمها وكتمها وطمسها، ألا يوجد مئات الحالات التي لو استمع إليها الحكام لكان الأمر قد تغير؟ ألا توجد لدينا حالات كثيرة لا تختلف عن هربيت ستاو التي استحقت زيارة إبراهام لنكولن وشكرها؟

التغييب الممنهج

باستثناء حالات نادرة وكبيرة كنزار وأدونيس وسواهما من القامات التي كانت بأحجام أوطان، واستطاعت أن تصل إلى مبتغاها من نفسها من دون عون دعائي أو أيديولوجي أو سلطوي، فإن عشرات الحالات التي لم تجد ميدانها صارت صامتة، وربما تحولت إلى ثقافة القطيع، أو هاجرت لتصبح بلبلاً غريباً يشدو على غير أغصانه، وتحولت الأرض العظيمة التي وصفها سليمان العيسى في جلسة خاصة بأنه تحت كل حبة رمل يوجد شاعر أو أكثر، تحولت إلى أرض قاحلة من الثقافة والأدب والإبداع، ومن ثم من الفكر والدراسات والفلسفة، ونهاية صارت غير قادرة على البحث الجاد الذي يقدم الرعاية الفكرية والسياسية للدولة الوطنية.

ويسأل بعدها سائل: أين الأدب؟

ويسأل آخر: أين النقد؟

ويتبرأ المسؤول من مهمة إنتاج المبدعين!

ليس من مهمة أحد خلق المبدعين، لكن من المهام الرئيسية إنتاجهم وتوزيعهم، ودعمهم، ومنحهم المنابر، وعدم النظر إليهم من السلطة أو من مثقفيها على أنهم هدّامون سلبيون لمجرد خصوصيتهم!

واقع الحال هذا جعل نجيب محفوظ، بغض النظر عن المنتقدين وصحة أقوالهم، الوحيد الذي حصل على نوبل، وعندنا العشرات الذين يستحقون، وهذا الأمر جعل أمريكا اللاتينية تنهض لتصبح سيدة الرواية على العالم، بما فيه العالم الغربي! وهذا الذي جعل أفغانستان وسواها تخرّج أدباء من وزن خالد الحسيني وغيره، ليكون أدبهم أدباً عالمياً! في الوقت الذي عجزت فيه الثقافة العربية عن إنتاج واحد من كبار العالم في الأمس واليوم.. ببساطة، الشرط الأول للبحث والإبداع هو الحرية، اجتماعياً وسياسياً ودينياً وثقافياً، ومما لا شك فيه أن هذا الشرط مفتقد لذلك نخرّج أنصاف أميين في كل مكان، وليس أنصاف مثقفين، ويصبحون سادة المشهد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن