لست من أنصار معادلة الكلمة الرصاصة، والصورة الصاروخ، لأن بعض من استخدموا هذه اللغة أرادوا إحلال الكلمة والصورة مكان الرصاصة والصاروخ، فكان أن أفسدوا دور الكلمة والصورة والرصاصة والصاروخ في آن معاً! رغم ذلك أود أن أشير إلى مناسبة دخول الحرب على سورية عامها الحادي عشر، إلى أن دور الكلمة والصورة في هذه الحرب لم يكن أقل خطورة عن دور الرصاصة والصاروخ. وقد استنتجت من خلال أحاديثي مع عدد لا بأس به من المواطنين السوريين، من مختلف فئات المجتمع، أنهم جميعاً عاتبون على مثقفي البلد، ويشعرون بمرارة مسكوت عنها إزاء دورهم الملتبس في هذه الحرب.
قبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع المعقد، أود أن أشير إلى أن المثقفين ليسوا فئة متجانسة، فهم ينحدرون من مختلف طبقات المجتمع، ومن الطبيعي أن تكون مواقفهم متباينة وأن يكون فيهم الخيّر والشرير، الوطني النزيه والتكنوقراطي المستعد لتأجير كفاءته لمن يدفع أكثر.
والحق أن ظاهرة اختراق المخابرات الغربية للأوساط الثقافية ليست بجديدة، ولا تقتصر على منطقتنا العربية، بل هي ظاهرة عالمية. ففي النصف الثاني من القرن العشرين نجحت المخابرات الغربية في استدراج بعض الأدباء من روسيا وأوروبا الشرقية كي ينشقوا على أوطانهم مثل ألكساندر سولجنتسين، وميلان كونديرا، وقد أدرك كل منهما تالياً خطورة ما أقدما عليه، فندم الأول وعاد في آخر حياته إلى وطنه روسيا وتوفي هناك عام 2008، على حين بقي الثاني في فرنسا، لكنه رفض إطار (المنشق) الذي حاول الغرب حشره فيه، فعندما سُئل مرة: «هل أنت شيوعي؟» أجاب «لا، أنا روائي». «هل أنت منشق؟». «لا، أنا روائي». «هل أنت من اليمين أو اليسار؟»، «لست من اليمين ولا من اليسار، أنا روائي فقط».
لست أسمح لنفسي بلعب دور القاضي، لكنني رغم ذلك أستطيع القول: إن المثقفين السوريين الذين وقفوا على الضفة الأخرى، ينقسمون إلى ثلاث فئات رئيسية. فئة أكابر التكنوقراط، وهؤلاء باعوا مهاراتهم ومواقفهم لجهات خارجية مخابراتية ذات واجهات ثقافية، وقبضوا الثمن، وما زالوا يبيعون ويقبضون.
فئة المثقفين الناقمين على الأوضاع، وهؤلاء ربطوا مصيرهم بالفئة الأولى، وهم الآن يعانون، لأن الأفق بات واضحاً بالنسبة لهم، ولم تعد خدماتهم مطلوبة كما في السابق.
الفئة الثالثة تشمل المخلصين المخدوعين من بسطاء المثقفين الذين استُخدموا كثيراً، وقبضوا قليلاً، وهم حالياً بين نارين، إذ يجدون أنفسهم في منتصف النفق، العودة بالنسبة لهم غير مغرية ولا مجدية والاستمرار هو ضرب من الانتحار.
إلا أن الفئة الأكثر سوءاً وإثارة لشفقتي واحتقاري من كل ما سبق، هي فئة (المثقفين) الذين يقدمون خدماتهم مجاناً لأعداء وطنهم من دون علم منهم، إذ يكرسون مهاراتهم الفكرية، وما يتمتعون به من شعبية، لخدمة أغراض المخابرات الغربية، وخاصة في المرحلة الحالية، ويأتي على رأس هؤلاء من يعممون اليأس ويحطمون القدوة، ويثيرون الشكوك حول الهوية الوطنية، وجدوى ما قدمه شعبنا من تضحيات.
لست أريد أن أقلل من حجم معاناة إخوتي السوريين، فالحق واضح إذا نظرنا إليه من خارج المصالح، رغم ذلك، أرجو من الجميع أن يحذروا من المشاركة في الحرب الباردة التي تستهدف عقولنا مجدداً، فقد بدأت محنتنا على جبهة الكلمة والصورة، ومن المرجح أن تحسم أيضاً على جبهة الكلمة والصورة.