قضايا وآراء

بادرة «العمق العربي»!

| عبد المنعم علي عيسى

الدبلوماسية الروسية التي نشطت بشكل ملحوظ خلال شهري آذار المنصرم ونيسان الجاري، حرّكت الكثير من «البراغي الصدئة»، ولربما استطاعت إعادة وضع بعضها قيد الاستعمال من جديد، فجولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الخليجية 9-11 آذار كانت قد أخرجت للعلن نغمة جديدة أمكن سماعها بوضوح عند التقاهم في عواصم الرياض وأبو ظبي والدوحة، مع تسجيل حالة متأخرة عند الأخيرة عن الأوليين تماشياً مع الإيقاع التركي الذي يرى في كبح جماح اندفاعة بدت شديدة الوضوح عند أبو ظبي، وهي ملحوظة في عواصم عربية أخرى مثل القاهرة وبغداد نحو عودة دمشق لمحيطها الإقليمي والعربي ما يحقق مصالحه الراهنة، ناهيك عن أن الفعل يستمد مناخاته الحاكمة من التناحر القائم والتقليدي بين أنقرة من جهة، وبين الرياض وأبو ظبي من جهة أخرى، ولهذا الأخير تأثير لا يمكن إغفاله لما يمكن أن تؤدي نتائجه، خصوصاً في الحالة السورية، إلى تثقيل إقليمي لكفة أحدهما على حساب الآخر.
تابع لافروف جولاته بمحطة كانت بارزة في القاهرة التي زارها 12 من نيسان الجاري، ولربما كانت هذه الزيارة محاولة لاستشراف جوهر الموقف المصري عما تناقلته وكالات عن إمكان عقد قمة ثلاثية في بغداد تضم كلاً من مصر والأردن والعراق، وفي المعلن فإن القمة تهدف لمناقشة الحراك الروسي الرامي إلى عودة سورية للجامعة العربية، هنا يمكن التأكيد أن الدبلوماسية الروسية كانت قد استطاعت في المحطات التي حلت بها إقناع أصحاب القرار فيها أن تجميد قرار تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية يعتبر نقطة مفصلية لحل الصراع في سورية، أو هو سيولد مناخات مساعدة، جنبا إلى جنب المسارات الأخرى، من شأنها أن تعطي زخماً دافعاً لهذي الأخيرة التي تبدو معطوبة بنيوياً في بعضها، وهي تحتاج في بعضها الآخر إلى محفزات قادرة على تنشيط الأجزاء التي أصابها التلف بفعل الإهمال.
راجت في الآونة الأخيرة تقارير تشير إلى أن «شخصيات سورية» لم يجر الإفصاح عنها، ولا ماهية التمثيل الذي تتمتع به، كانت قد تقدمت بمبادرة أطلق عليها اسم «مبادرة العمق العربي» التي يدل اسمها على أنها محاولة لبلورة قوة عربية يمكن أن تشكل ثقلاً وازناً في مواجهة الأوزان الأخرى الإقليمية الفاعلة على الساحة السورية، بعدما سجلت هذي الأخيرة غياباً شبه تام للثقل العربي الذي عملت مراكز الثقل فيه على النأي بنفسها عن الأزمة السورية، وهو ما ظهر بوضوح أقله ما بعد التدويل الذي شهدته هذي الأخيرة بدءاً من خريف لعام 2015، الذي أحال فيه التدخل الروسي الكثير من الأدوار إلى التقاعد، وعليه فقد باتت التحركات الإقليمية تجري على إيقاع قائدين للاوركسترا لا يبدوان متناغمين في الحركات التي يرسلونها لعازفيهم، بينما الوجهة التي تقدمت إليها تلك المبادرة توحي بأن الرهان ينصب على أن يكون محور القاهرة عمان بغداد نواة تلك القوة العربية.
من ناحية فإن الظروف الدولية تبدو مواتية لنجاح فعل من هذا النوع، فالقوى الدولية اليوم تبدو مهيأة، أو هي ترى نفسها بحاجة إلى سند إقليمي مساعد، لإعطاء دور عربي يكون وازناً في مواجهة الثقلين الإيراني والتركي في سورية، وهذا الأمر ينطبق على كل من موسكو وواشنطن بدرجة واحدة، فالأولى ترى أن ممارسة الضغط على دمشق من شأنه أن يؤدي إلى دفع الأخيرة إلى توثيق علاقاتها مع طهران بدرجة أكبر مما هي عليه الآن، أما واشنطن فإنها ترى أن بروز تكتل عربي أمر من شانه تحجيم الدور التركي النازع نحو تحقيق المزيد من المكاسب على وقع التوترات التي ما انفكت تتزايد رغم الحروب التي اندلعت منذ عقد من الزمن، ولا مؤشرات على افتقادها للجذوة التي بدأت فيها ربيع عام 2011.
لكن من الناحية العملياتية، وفق ما ترصده بنود المبادرة الواردة في التقارير التي أشارت إليها، فإن تلك المبادرة تبدو أقرب إلى مشروع غربي سبق أن جرى طرحه، وإن كانت الأولى، أي المبادرة السابقة الذكر، قد جاءت ببعض التعديلات لإضفاء صبغة عليها توحي بأن من تقدم بها، إنما تقدم وفقا لاعتبارات تحكمها مفاهيم «الممكن» و«المتاح» وفق المعطيات الراهنة، فهي في خطوطها العريضة تقوم على أن يعمد «التكتل العربي» المفترض بإقناع دمشق في ذهابها نحو صياغة مشروع متطور لقانون الإدارة المحلية المنصوص عليه في دستور العام 2012، على أن يأتي «التطوير» هنا بنظام لا مركزي إداري واقتصادي، يتبعه دراسة مشاريع «الحوكمة» وإمكانية تطبيقها في سورية بدءاً من أقصى الشمال في البلاد إلى أقصى جنوبها، كما تتضمن المبادرة الضغط على «قوات سورية الديمقراطية» للقبول بإنشاء إدارة جديدة تقوم على مبدأ تقاسم السلطة ما بين «القوات الكردية» وبين «العشائر العربية» في المنطقة.
هذه المبادرة هي مشروع تقسيمي بكل ما تعنيه الكلمة، وهو أشد وضوحاً مما جاء في «دستور بول بريمر» الذي أقر في العراق العام 2004، فالأخير كان قد استتر لتحقيق مراميه بتقسيم العراق، وإن كان بشكل غير معلن، خلف قانون الأحوال الشخصية الذي أتاح لكل طائفة وضع قانون يراعي خصوصيتها، الأمر الذي سرعان ما تبدت تداعياته التي كانت من النوع التراكمي، بمعنى أنها كانت بحاجة للوقت لظهور آثارها وخروجها إلى العلن، ما أفضى إلى تكريس تباينات أخذت تتعمق بمرور الزمن بين المكونات العراقية، على حين أن «مبادرة العمق العربي» تجاوزت حتى التستر وراء خلفية من نوع ما ذهب إليه بريمر في العراق الذي لا يزال يرزح تحت وطأة دستوره الآخذ في «تفسيخ» ما تبقى من مركزية في سلطة بغداد بعد قيام الحكم الذاتي في شمال العراق، فـ«اللامركزية» لن تفضي إلا إلى سيناريو وحيد سوف يقود نحو خلق دوائر مجتمعية سرعان ما تتشكل لها ثقافة مجتمعية خاصة تتعزز بمرور الوقت، وبنى اقتصادية تزيد من ترسيخها واقعاً سرعان ما تتبلور ملامحه، ومن حيث النتيجة يمكن الجزم، وفق ذلك السيناريو، بأن ما سينتج عن هذا الأخير هو ولادة كيانات تكون شبه مستقلة، سواء أعلن ذلك أم لم يعلن، تضعف من مركزية دمشق كمقدمة لإنتاج سورية جديدة لا تشبه التي عرفناها، فالأخيرة دولة دور، ودونه يصبح كيانها هامشياً، بل دونه تضمحل جغرافيتها التي لا تنحصر بـالـ185 ألف كم مربع.
لا بديل من أن تظل المركزية هي الأساس الذي تقوم عليه أي تسوية مقبلة، وإلا فلتستمر الأزمة، لأن خسائرنا الراهنة، على فداحتها باستمرارها، سوف تكون أقل بكثير فيما لو ذهبنا في الاتجاه النقيض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن