قضايا وآراء

العالم الرقمي بين الاقتصاد والسياسة

| د. قحطان السيوفي

العالم يتغير باستمرار، وأحد محركاته الأساسية هو التحول الرقمي، والاقتصاد السياسي العالمي يمر أيضاً بتحول رقمي يحدث بسرعة فائقة، أصبح العالم الرقمي اليوم المؤثر الأهم على البشرية ولعل من أسباب مظاهر الخلل الاقتصادي وما يصاحبه من توترات سياسية حول العالم ما يرجع إلى قدم النظم الاقتصادية والمؤسسات المستخدمة للتعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين.
التقنيات الرقمية هي المكون الرئيس لصعود حضارة مختلفة وجديدة تماماً، وتُطلق عصراً للاقتصاد السياسي تصبح فيه المعلومات الرقمية سبباً مباشراً للتبدل العميق فكرياً وثقافياً.
يُعرف الاقتصاد الرقمي كفرع من علم الاقتصاد، يدرس السلع غير الملموسة ذات التكلفة الحدية الصفرية عبر الشبكة وهو ناتج عن مليارات الاتصالات اليومية عبر الإنترنت بين الأشخاص والشركات والأجهزة، وهو يعتمد تقنيات الحوسبة الرقمية، ومبنيٌ على نظام تُحركه وتُنظمه المعرفة وانتشار المعلومة، حيث تتنافس الشركات على استقطاب المواهب ورأس المال البشري المؤهل.
ثمة أربعة روافد حول المستقبل تُسهم بتشكيل الاقتصاد السياسي للعالم الرقمي؛ أولها كيانات جديدة للتقنية المالية، ثانيها هيئات الرقابة المالية والبنوك المركزية، ثالثها التقنية الحكومية في العصر الرقمي، رابعها التقنية المجتمعية، أي الاستثمار في البشر تعليماً وتدريباً في العصر الرقمي وإدماج الناس في منظومة متكاملة ذات فرص عادلة للحياة والتقدم.
يعتمد الاقتصاد الرقمي في تطبيقه على أبعاٍد متعددة من أبرزها الانتشار الواسع للشبكة العنكبوتية واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ما يحفّز النمو الاقتصادي، ويحسّن توفير الخدمات العامة ويُعزز قدرات الحكومات، ومشاريع الأعمال، والمواطنين، وتطوير أنشطة جديدة في القطاعين الخاص والعام وخفض التكاليف، إذ أصبحت الشركات قادرة على إدارة عملياتها العالمية على أساس متكامل من موقع مركزي.
يُطلق على الاقتصاد الرقمي أحياناً اقتصاد الإنترنت أو اقتصاد الويب، وقد تم الإشارة إلى مصطلح الاقتصاد الرقمي لأول مرة في اليابان في تسعينيات القرن الماضي، وتم في أوروبا صياغته في كتاب تابسكوت بعنوان «الاقتصاد الرقمي: الوعد والخطر في عصر الذكاء الاتصالي» والذي يعتبر من أوائل الكتب التي نظرت إلى الإنترنت كطريقة لأداء الأعمال.
من خصائص الاقتصاد الرقمي الانتشار الكبير لحجم البيانات بالإضافة إلى الأمن المعلوماتي، وإلى تنفيذ الإستراتيجيات المتعلقة بالمعلومات وتحليلها وتفسيرها، لذا سيصبح الأمن الخاص بالمعلومات أو ما يعرف بالسيبراني أكثر أهمية للحفاظ على هذه البيانات آمنة.
حول المالية الرقمية ثمة سؤال مهم، ما مستقبل المال في العصر الرقمي؟
المال مهم للغاية بحيث لا يمكن تركه للقطاع الخاص وحده، كانت الحسابات على الورق، والآن، هي على السجلات الإلكترونية، تغيير في الهيكل أم مجرد تغيير في التكنولوجيا؟ للإجابة عن هذا السؤال، من المفيد التذكير بوظائف المال الثلاث: وحدة الحساب، ومخزن للقيمة، ووسيلة للدفع.
يتسم العالم الرقمي بسرعة التغير، إننا نتجه نحو نقطة تحول جديدة: التحكم الصوتي، كانت فكرة تكنولوجيا الصوت تثير السخرية سابقاً، تجاوزت جودة التعرف على الصوت نسبة 95 في المئة عام 2018.
يعد الشمول المالي، موضوع الساعة لصنّاع السياسات في كل الاقتصادات النامية تقريباً، فهو يُيسّر التوفير ويدعم النشاط الاقتصادي، وتسهم الخدمات المالية الرقمية في التنمية المالية، ودعم الاستقرار المالي.
السوق الرقمية توصف بأنها سوق متعددة الجوانب، الفكرة التي طورها جان تيرول، الحائز جائزة نوبل، تستند إلى فكرة أن المنصات ذات وجهين. تسمح هذه الميزة بتوضيح سبب قدرة هذه الأنظمة الأساسية على اقتراح محتواها بحرية، مع العملاء ومطوري البرامج.
شبكة الإنترنت هي البنية الأساسية لمسار الاقتصاد السياسي والعولمة اليوم، ينظر العالم إلى قطع الإنترنت في أي بلد، كأنه إيقاف الأوكسجين والكهرباء والماء عن الناس، بالمقابل فالفضاء المفتوح مجال خطير للإرهاب وتجنيد عناصره ونشر أفكاره المتطرفة والجريمة المنظمة والجرائم الأخلاقية، وهذا التحدي القانوني الأهم في الحفاظ على التوازن المطلوب بين فتح مجال العالم الرقمي وإغلاقه في وجه من يسيئون استغلاله.
وفقاً لأحدث تقرير لمنظمة العمل الدولية بعنوان «تقرير الاستخدام والآفاق الاجتماعية في دور منصات العمل الرقمية» في العالم 2021، هناك نوعان رئيسان من منصات العمل الرقمية: منصات إلكترونية تنفذ المهام المطلوبة عبر الإنترنت وعن بُعد بواسطة العمال، ومنصات ذات مواقع محددة، تنفذ المهام المطلوبة في موقع محدد بواسطة أفراد، رغم هذا الزمن العربي الرديء لا يمكن أن تبقى المنطقة العربية بمنأى عن ثورة الاقتصاد الرقمي بأبعاده الاقتصادية والسياسية للاستفادة من مزاياه، وهذه مسألة مهمة في ظل العولمة، ما يحتّم على البلدان العربية تحديد المجالات ذات الأولوية في الاقتصاد الرقمي، وإعداد خطط عمل للانتقال إلى العالم الرقمي كي ينجح «النهج الطموح» للعالم الرقمي الجديد في إتاحة فرص نمو متكافئة وإيجاد ملايين الوظائف، يتعين على السلطات العامة أن تصبح هيئات تنظيمية فاعلة، فالتحول إلى الاقتصاد الرقمي ينطوي على مجموعة من التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتطلب وضع قواعد واضحة للعمل، كما أن جهود التحول إلى الرقمية يجب أن تكون مدفوعة من قمة الهرم «الإدارة العليا» وهي تتطلب اهتمام الإدارة ووضع خطط متكاملة تجعل الرقمية من الهياكل الأساسية للمؤسسة.
العالم يمر في مرحلة بناء مفاهيم جديدة في الاقتصاد السياسي تلائم التغيرات التقنية الكبرى، مما يؤسس لقيم وقواعد جديدة على المستويين الفردي والجماعي.
أخيراً، في ظل الأبعاد الاقتصادية والسياسية للعالم الرقمي يحتاج المستخدمون إلى حمايتهم من جرائم الفضاء الإلكتروني بأن تكون القوانين أكثر صرامة للتصدي لهذه التحديات، لم يتم بعد التوافق في الآراء بين صنّاع السياسة حول أفضل سبل تطبيق المبادئ وعلى الدول تحليل مختلف التجارب من خلال تبني الجوانب التي توافق واقعهم الاقتصادي والسياسي وتحديد الحلول الحقيقية في عالم رقمي جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن