ثقافة وفن

ارتبط اسماهما معا إلى الأبد … سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر

| هبة الله الغلاييني

في نهاية الحرب العالمية الثانية تبوأ سارتر وبوفوار، على نحو سريع، مكانة عالية بوصفهما مفكرين حرين ومثقفين ملتزمين، كتبا في جميع الأنواع الأدبية: المسرحيات والروايات والدراسات الفلسفية وقصص الرحلات والسيرة الذاتية والمذكرات والتراجم والصحافة، وقد شكلت رواية سارتر الأولى (الغثيان) حدثاً في عالم الرواية الفرنسية المعاصرة. وغدت مسرحياته العشر حديث الموسم المسرحي في باريس، وأحدثت دراساته الفلسفية: (الوجود والعدم) و( نقد الفكر الديالكتيكي) وغيرها صدمة. هذا إلى جانب بحثيه الأدبيين اللذين كرسهما لجان جينيه وغوستاف فلوبير. لكنه ربما سيذكر على نحو أفضل من خلال سيرته الذاتية (كلمات)، هذا الكتاب الذي أكسبه جائزة نوبل. وسترتبط بوفوار دائماً بكتابها الهام (الجنس الآخر) وبمذكراتها وبرواياتها اللامعة (المندرين) التي استحضرت فيها جو أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

غدت بوفوار كاتبة المذكرات العظمى في جميع الأوقات، وتعكس كتاباتها بطريقة ما حياتها الخاصة فقد كتبت، إضافة إلى المجلدات الأربعة المتضمنة مذكراتها، حول رحلتها إلى الصين (المسيرة الطويلة) وكتاباً عن موت أمها (موت سهل جداً) وآخر عن سنوات سارتر الأخيرة ( الوداع) وروايتين مبنيتين على سيرتها الذاتية (أتت لتبقى) و(المندرين)، لم تكن بوفوار من بعض النواحي، رفيقة سارتر فحسب، فقد كانت كاتبة سيرته وسيرة صديقاته، وفي كتابها عن حياتها كتبت عنه أيضاً، وقد شجعها سارتر. وبوصفهما وجوديين آمنا أن شخصيتهما ليستا أكثر أو أقل من مجموع أفعالهما، ووضعا نفسيهما، طواعية، في مواجهة حكم الأجيال القادمة.

تشاركا الظمأ للمطلق. يقول سارتر: (من الطبيعي ألا ينجح أحد في كل شيء، ولكن ينبغي عليه أن يريد كل شيء) كلاهما كانا متمردين طوال حياتهما. وعندما كانا طالبين لم يستطيعا الإنجاز بتألق أكبر في ظل التعليم الفرنسية، فأدارا ظهريهما للصرامة الأكاديمية والأناقات البورجوازية، وازدريا كل شيء يحتوي على أي أثر من الرصانة التقليدية.

إننا إذ نفكر بسارتر وبوفوار يعني أن نفكر بالحرية. يقول سارتر (الإنسان محكوم بأن يكون حراً). إن فلسفته عن الحرية لم تكن من الناحية النظرية برجاً عاجياً، بل كانت ملتصقة بالحياة. وكوجوديين رفضا أي فكرة عن (الطبيعة الإنسانية). وكفيلسوفين تحديا جميع التقاليد الاجتماعية. لا أحد كان يمكنه أن يعلمهما كيف يعيشان حياتهما، ولا حتى حياة حبهما. كانا مدركين أنهما يبتكران علاقتهما من خلال تعاونهما.

أمضى سارتر وبوفوار حياتهما يعالجان مسائل علم الأخلاق ومذاهبه. وكان عليهما أن يحققا الاستخدام الأمثل لحريتهما. بداية كانا منشغلين بالحرية الفردية. وفيما بعد انتقدا بشدة هذه الفترة المبكرة الطويلة التي نظرا إليها كفترة الشباب غير المسؤولة. وقد جعلتهما الحرب العالمية الثانية مدركين للتاريخ. وفي عام 1945 أسسا مجلة (الأزمنة الحديثة) التي كان لها تأثير كبير في فرنسا وأوروبا، وحتى في العالم الثالث. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً أصبحا مفكرين اجتماعيين كتبا (أدباً ملتزماً)، واحتضنا العمل السياسي.

ومع نزعتهما لصنع الأسطورة كان هناك إيمان عميق بقول الحقيقة، بالنسبة إليهما كانت فكرة التكتم هي أثر من آثار نفاق البورجوازية. لم الاحتفاظ بالأسرار؟ كانت مهمتهما كمفكرين، هي سبر ما تحت السطح للوصول إلى أعماق التجربة وكشف زيف الخرافات وإيصال الحقائق المجردة إلى قرائهما.

كان ثمة إغفالات في مذكرات بوفوار، ولكن كان ثمة الكثير مما قالت – وهو كاف ليثير فضول أجيال من القراء. ومنذ أن بدأ سارتر وبوفوار العمل في التدريس في الثلاثينات، كانا مدركين أنهما قدوة للشباب. أحبا التدريس، واستمتعا بتأثيرهما على الأذهان الشابة. وكانت صداقاتهما المستديمة مع الأشخاص الأصغر منهما سناً. كلاهما ألهم شماسيه، كما كان يدعوهم سارتر. وقد تعاظمت هذه الظاهرة حين بدأت مذكرات بوفوار بالظهور في عام 1958. ففي الستينيات والسبعينيات كلن سارتر وبوفوار مثالاً لهم.

توفي سارتر عام 1980 وبوفوار عام 1986. إنهما لم يتلفا رسائلهما ويومياتهما، وكان من الواضح أنهما خططا لتنشر بعد موتهما، وقد نشر الجزء الأكبر من رسائلهما بعد عدة سنوات. كانت صدمة القراء قوية، إذ تبين في النهاية أن هذين المدافعين عن قول الصدق كانا يكذبان دائماً على العديد من الفتيات غير المستقرات عاطفياً. (كان سارتر يدعوها (أكاذيب بيضاء) أو (نصف حقائق) أو (أكاذيب كاملة). وفي الوقت نفسه كان سارتر وبوفوار مرهفي الإحساس أكثر مما نتصور. وكان شغفهما بالمشاركة في أدق تفاصيل حياتهما اليومية -رائحة المطر، لون المصابيح في الظلام، المحادثات الفكهة التي يتبادلانها في القطار – محببا إلى النفس.

في السنوات الأخيرة باح سارتر وبوفوار بأسرارهما المتشابكة من وراء قبريهما. فقد نشرت في عام 1997 رسائل الحب التي وجهتها بوفوار إلى نيلسون ألغرين. وقد أدهشت القراء. وفي عام 2004 نشرت الرسائل المتبادلة بينها وبين جاك لوران بوست. وفاجأت القراء ثانية في كل مكان. هل هي سيمون دو بوفوار، الانفعالية والمتحمسة والحسية، التي اعتقدوا أنهم يعرفونها؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لازمت سارتر؟ وكتب أحد النقاد متسائلاً (كيف استطاعت العيش مع ذلك الشخص ذي النظارات والصوت المعدني والبذلة الزرقاء المجعدة، في حين تمتلك مثل هذه الحيوية والذكاء والعذوبة؟ يا له من لغز!).

وبعد عدة عقود، عقود أثار فيها سارتر وبوفوار اهتماماً قليلاً، خاصة في فرنسا، هناك اعتراف جديد بأنهما تحليا بالشجاعة والجرأة للسخرية من العرف السائد، وحاولا العيش وفق مبدأ الحرية والمسؤولية، وفتحا العديد من الأبواب. ربما تجاوزا أحياناً فلسفتهما، ولكن مهما كانت إخفاقاتهما، فقد عاش بعض الأشخاص الحياة بكثافة.

وسواء اعتقدنا أنها واحدة من أعظم قصص الحب في التاريخ أم لم نعتقد، فهي بالتأكيد قصة حب عظيمة، تماماً كما أراد سارتر وبوفوار لحياتهما أن تكون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن