ثقافة وفن

أيام الفراشة.. تنوع في السرد وحفاظ على الهوية … هزوان الوز في قصصه القصيرة يلتقط اللحظة ويسأل عن الفن والحياة

| إسماعيل مروة

هزوان الوز عزز حضوره روائياً في عدد من الروايات، منها دمشق ومعرض مؤجل، الثلاثية التي قدمها شهادة لمرحلة عمرية وفكرية واجتماعية، وقد بدأ الوز قاصاً، نشر عدداً من المجموعات القصصية، ثم انحاز إلى الفن الروائي، وقدم عدداً من الأعمال التي تحمل خصوصيتها ونكهتها، وقد وقفت عندها عند صدورها، وقدم عدداً من الكتب المترجمة عن الروسية، إضافة إلى مقالات عديدة، واليوم تصدر مجموعة (أيام الفراشة) عن وزارة الثقافة، وكأنها استراحة بين عملين روائيين للدكتور هزوان الوز، فماذا تخفي الفراشة في أيامها؟

الرمز والواقع

من الخازوق إلى الحريق وفي المجموعة عموماً يقدم الكاتب مجموعة من القضايا الفكرية والاجتماعية العميقة، ويلجأ إلى الترميز الشفاف ليقدم أفكاراً مهمة، وهو المطلع على أشياء كثيرة من خلال وجوده في مواقع مهمة ومؤثرة، وإشارتي هنا إلى مكانته غائية نقدية، فما قدمه في الخازوق والحريق تحديداً يتعمق ببنية فكرية متردية، هناك من هو مسؤول عنها، وهناك من يدفع ثمنها، دفع سابقاً ويدفع الآن وسيدفع لاحقاً، فالحريق هو ما حدث في سورية والحرب عليها، والتمهيد بالخازوق أمر مهم للغاية من خلال رؤية المعنيين للقيم الجمالية والثقافية والتراث المادي.. وهاتان القصتان أو الفكرتان غاية في القيمة والأهمية، ولكنني بعد قراءة النصين، واستمتاعي بما فيهما من صور وأخيلة وشخوص، وأكثر من ذلك بعد اطلاعي على مجاهيل يكشفها القاص بحذر، سألت نفسي: بعد أن حصل الحريق، وبعد أن طال كل شيء، وبعد أن تراكمت أكوام النفايات التي حوت كل شيء.. هل يكفي أن أصف ما جرى في الحريق؟ وهل يحتاج هذا الحريق الذي التهم أعمارنا وبلدنا وما جنيناه، هل يحتاج إلى أن أضعه خلف ستارة من الإهمال والبيروقراطية والسذاجة؟ ربما كان ذلك ممكناً، لو كان القاص غير عارف، وغير قادر على امتلاك المعلومة التي تساعده.

«لم يعد الحريق حدثاً يخص أهل الحي، فلقد بدأ سكان الأحياء المجاورة يبدون تذمرهم خوفاً من وصول الحريق إلى بيوتهم..».

«يا أختي الكومة كلها أسرار، لا تأخذي مني غير الحكي، لكن كل يوم تسمع العجب».

«وعدهم أن يضع حداً للكومة، وسيطلب موافقة المحافظ على وضعها تحت الرقابة لمعرفة الشاردة والواردة».

أنهى القاص حريقه بكثير من علامات الاستفهام، لكنه أضاف بعد الخاتمة نصاً من الأخبار الطوال تتحدث عن اللصوص الذين اجتاحوا الشام «إن رجلاً وافى أرض الشام في جماعة من اللصوص، فكان إذا جنَّ الليل أشعل في ناحية من السوق النار..».

ولست أدري لماذا اختار هزوان الوز نصاً من الأخبار الطوال، ولم يختر نصاً من «ألف ليلة وليلة» وهي سيدة القص الشرقي، وفيها نصوص عن علي بابا، ويمكن أن تكون قصة علي باب مكملة لما جاء في الأخبار الطوال، إلا إذا كان لا يؤمن بوجود علي بابا وجماعته، الذين أحاطوا الحريق برعايتهم.

الموضوعات والطروحات

في هذه المجموعة يغطي هزوان الوز تفاصيل سورية صغيرة عن الحرب ومجرياتها وتأثيراتها، وقد أفاض في الحديث عن ذلك، خاصة في قصته شبه الواقعية، وربما كانت من تجاربه في التربية، قصة محمود وجابر التي انتهت برسم القلب لوحة وبالأيدي والأصابع المتعانقة.. والقارئ يترقب شيئاً ما وهو يقرأ، خاصة من خلال توجس أم محمود وأم جابر، هذا التوجس الموجود دوماً ولو لم تكن هناك حرب، لكنه أعطى جواً مزعجاً في القصة ليأتي الشعور الطفولي مخالفاً لهذه المخاوف والأوهام، وأزعم أن من واجب القصّ والأدب أن يزرع طمأنينة أكثر من الخوف غير المسوّغ من أجل خلق مفارقة تخالف الواقع، وكأنها تدق ناقوس الخطر فوق رأس الأشخاص في القصة، ليقول لهم في النهاية: تعلموا من الطفولة.
وفي ثلاثيته (معرض مؤجل) وقف الوز عند الأدب واللوحة، وصنع منهما عالماً استطاع من خلاله أن يقدم بانوراما حروفية لونية لحال سورية منذ بداية أحداث الرواية، وصولاً إلى النتائج التي تبدّت في هذه الحرب، ويبدو أن عالمه هذا مفضّل لديه، لذلك كان التعبير من محمود وجابر بالفن، ولذلك كان رشيد فان كوخ السوري وغير ذلك، وكأن هذه القصص ذات صلة بالثلاثية جاءت من إهابها، أو استلهمها الروائي بعد أن صدرت الرواية بأجزائها الثلاثة.

ومما يحمد للقصص والكاتب أن يتطرق إلى موضوعات وقضايا تتعلق ببنية المجتمع العربي وقناعاته، ومنها سكب الرصاص الذي لا يعرفه الكثيرون اليوم من أجل التداوي على الطريقة الشعبية، وينهي الكاتب القصة بألم لواقع عربي مترهل فكرياً في جوانب كثيرة، ولم يترك القصة تقول ذلك من نفسها وإنما آثر التدخل وقول ذلك، وهذا الفعل له ما له وعليه ما عليه، إذ ينبه القارئ إلى شيء ما لم يكن بباله، ويطلب منه أن يتنبه له، ولم يأخذه الحدث إليه لاستخلاصه.

التكنيك القصصي

مع أن النصوص قصصية قصيرة إلا أنها حملت موضوعات كبيرة، ولم يبتعد الكاتب عن تكنيكه الذي اعتمده في الروايات من اقتباسات، وخروج ودخول، واستلهام عناصر لها علاقة ما بالنص، مثل استحضاره لفيكتور هوغو وفان كوخ والدينوري ولؤي كيالي، وأزعم أن هذه التقنية ممكنة ولها مكان رحب في الرواية، أما اعتمادها في القصة فمحفوف بالمخاطر، لأن الحدث البسيط لا يحتمل مثل هذه القضية، والكاتب هنا لم يعتمدها في نص واحد، بل في أكثر من نص، وهذا ملمح إيجابي، إذ يعتمد القاص التجريب، ويحدد لنفسه هوية خاصة، ويرسم أسلوبه في القص عموماً، وليس في الرواية وحدها، وربما تحتمل القصة مثل هذا التكنيك،، وربما يرهقها، ويقطع سلاسة السرد، فالعنونة ولفت الانتباه أمران شائعان في أيام الفراشة.

إشكالية الانتماء

نسمع كثيرين يتحدثون عن الانتماء، وعن السوريين تحديداً، ومن أنهم شعب مختلف متحاب متعاضد، ويلهث العديد وراء الشعارات، وفي أثناء الحرب على سورية حاول كثيرون تبرئة المجتمع السوري لغايات محددة لديهم مما يحدث، وكأن ما جرى في سورية كان نبتاً شيطانياً مفاجئاً، جاء هكذا دون مسببات، ودون إرادة السوريين، ودون مشاركتهم في تدمير وطنهم، والأهم دون تدمير روابط المجتمع والقربى والحب بين أفراد المجتمع، وهزوان الوز في مجموعته يعالج هذا الموضوع بوضوح، يظهر حيناً، يتوارى حيناً، ولا يختار له نهاية حسب قناعته، ففي رصاص آخر، يختار ثيمة الأمومة، مع ما لهذه الرمزية من قيمة عظيمة لدى الإنسان، وما بين رصاصين يحيا أبطال القصة والأم تذوي وتتألم وحالها يسوء ليظهر وجود تكتلات وجماعات، وعبّر عن ذلك بقوله عن القربى والأقرباء، ليصل إلى حوار صريح واضح مع أبناء عمومة فهد، بأنهم لا يشاركون الرأي، ولا يوافقونه على خياراته وأصدقائه، فإما أن يكون معهم، ومع من تضامنوا معهم أو أنه سيلقى حرباً من أبناء عمومته، وهذا حصل حقاً في سورية، وأظن أن الناس البسطاء كانوا أكثر وعياً من المثقفين وعالجوا هذا الأمر بوعي، لذلك بقي النسيج السوري على تضعضعه بفضل البسطاء الذين يدركون معنى الوجود في الحياة، وفي كل ميدان كان الخلط قائماً بين البسطاء والمؤدلجين الذين يقودون كل فئة من الفئات!

وحين حان الوقت عند فهد والوز لاتخاذ أمر ما، وجدنا الوز يعود إلى تقنياته المفاجئة في الحلول، فيترك الأمر للقارئ، بمداخلة صادمة «ربما كانت هذه القصة قصتنا جميعاً، قصة غير قرية في هذه الأمة المترامية الأحزان، ولكن ما رأيك لو كانت الخاتمة أو ما يسميه النقد لحظة التنوير غير ذلك؟.. اصنع الخاتمة التي تشاء، فالقصة بين يديك الآن، ولكن عليك أن تأخذ بالحسبان أن ما تحكيه القصة حدث فعلاً، أعني أن الأحداث واقعية تماماً.. أجل، وذلك هو الفن، بل مغامرته على نحو أدق.

الحب لا الرصاص.

ماذا تعني؟

السؤال الأهم الذي أطرحه الآن: هل يملك القارئ لحظة التنوير؟ وهل بإمكانه حقاً أن يضع خاتمة لقصة الرصاص؟
قلت: البسطاء كانوا أكثر وعياً، وبما أنهم طحنوا فهم لا يملكون القرار، وليست لديهم الإمكانية لوضع الخاتمة، وليسوا قادرين على الخيار بين الحب والرصاص!

أحرص على طرح الأسئلة والأفكار، فالإبداع لا يمكن أن يتم إيجازه وتلخيص أفكاره، ولكنني سعدت بما قدمه الروائي والقاص الدكتور هزوان الوز في هذه المجموعة، ليعزز الرأي بأن الحرف أبقى، وأن ينحاز المبدعون إلى من يتوسمون فيهم القدرة على كتابة النهايات التي تؤدي لسعادة الإنسان على الرغم مما جاء في الأخبار الطوال وسواها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن