يروي الكاتب الليبي مجاهد اليوسفي في كتاب له سيصدر قريباً في بيروت بعنوان «دولة الخيمة» الذي يرسم من خلاله رؤيته لتجربة العقيد معمر القذافي في حكم ليبيا، والذي نشرت جريدة «الشرق الأوسط» مؤخراً أجزاء منه على ثلاث حلقات، أن الأخير وما بعد قضية اتهام ليبيا بإسقاط طائرة ركاب أميركية فوق «لوكربي» التي ستعرف بعدها تلك القضية بهذا الاسم، والطريقة التي حلّت بها بعد نحو عشر سنوات، كان قد توصل إلى صوغ نظرية جديدة عن الغرب يمكن تلخيصها بخمس كلمات هي «الدين الوحيد للغرب هو المال»، ومن المؤكد بأن تلك النظرية كانت صائبة بدرجة كبيرة في تصويرها للسياسات الغربية التي ينتهجها في تعاطيه مع أزمات المنطقة، وهي ظلّت مستمرة حتى تجلت أمامنا بشكل واضح في أزمتنا السورية، فعشية الإعلان عن الانتخابات الرئاسية السورية السابقة يوم 3 حزيران 2014، كان مسؤول ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي ريتشارد هاس يقول: إن «الأموال التي صرفت لإسقاط النظام السوري وانشقاق قياداته ومسؤوليه كانت كافية لانشقاق الملائكة عن اللـه»، وقبيل وقت قريب كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي لا يزال يمثل مركز تقاطع معلومات يصعب وجود نظير له، يقول: إن «80 مليار دولار قد صرفت فقط في غضون أربعة أشهر لإسقاط النظام السوري».
منذ مطلع هذا العام الذي سيشهد منتصفه استحقاقاً سورياً هو الأهم منذ بدء الأزمة انطلاقاً من أنه يمثل تكريساً لكل ما حققته ميادين المعارك ودهاليز السياسة، ومعهما جولات الدبلوماسية من على منابر المحافل الدولية، كان من الواضح أن الضغوط الخارجية سوف تزداد على دمشق لعلها تحدث أحد أثرين، أولهما إمكان أن يرضخ «النظام» فيضطر لتقديم تنازلات جيوسياسية مهمة، أو يكون لها فعل «النفخ في الصور» في الجسد المعارض الميّت سريرياً، وفقاً لتوصيف العديد من الدوائر الغربية، وقبيل أن يحدد مجلس الشعب السوري موعد الانتخابات الرئاسية يوم 26 أيار المقبل، الأمر الذي كانت تباشيره مقروءة جيداً في تلك الدوائر، بدأت الضغوط تتكثف عبر ثالوث واشنطن- باريس- برلين، الذي وصل ذروته في التقرير الذي أصدره فريق لمحققين دوليين يوم 12 نيسان الجاري، حمّل فيه «الجيش السوري مسؤولية الهجوم بغاز الكلور على سراقب في 4 شباط 2018»، وفي 15 نيسان طالب عدد من أعضاء الكونغرس الرئيس الأميركي بتشديد العقوبات على سورية، لكن اللافت هو أن تلك الضغوط الغربية المتكاثفة كانت قد قوبلت على الضفة العربية باندفاعة بدت واضحة باتجاه دمشق، وهي بلغت ذروتها مع تصريح لوزير الخارجية المصري سامح شكري قال فيه بضرورة عودة دمشق لمحيطها العربي، وزاد عليه معبراً عن أمله بعودة الاستقرار إلى سورية لما كان عليه قبل عام 2011، واللافت هو أن ذلك التصريح كان قد حدث في 12 نيسان، أي اليوم نفسه الذي أعلنت فيه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عن تقريرها سابق الذكر، ولذاك رمزية يمكن أن تعطي مؤشراً على تفلت عربي من ضغوط الغرب، وهو ناتج بالدرجة الأولى عن ضرورة تغليب موجبات الاستقرار في المنطقة على مشاريع هذا الأخير الذي ما انفك العديد من مسؤوليه يعلنون يوماً بعد آخر عن خيبة أملهم بفشل تلك المشاريع، ومن الراجح أن أغلبية الدول العربية باتت موقنة بوجوب وضع العربة على هذا الطريق، وإن كان البعض منها يفضل العمل، أو التأييد، في الخفاء لاعتبارات عدة تختلف من بلد إلى آخر، لكن المؤكد هو أن المعلنين، وأولئك الذين يفضلون «العمل في الخفاء»، جميعهم يفضلون التنسيق مع روسيا التي كما يبدو استطاعت إقناعهم بأن تطبيق المزيد من الضغوط الغربية على دمشق قد يدفع بها نحو خيارات تصعيدية من نوع إمكان أن تذهب نحو إعلان انسحابها من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي انضمت إليها طوعاً.
من الراجح أن تستمر «اليد» الغربية في ممارسة أقصى ما تستطيع من الشد على الجسد السوري حتى 26 أيار المقبل، قبيل أن «ترتخي» الأعصاب صبيحة اليوم التالي، وإن كان ذلك سيحدث بطريقة حفظ ماء الوجه، فمن المؤكد أن الضجيج الذي يمارسه جلّ الغرب اليوم تجاه دمشق هو من النوع الإعلامي، وهو لن يتعدى هذه الحدود، فحدود الفعل كان قد رسمها تصريح للرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام عبّر فيه عن انتقاده لشن بلاده حروباً عبثية في الخارج، وزاد بأن عبّر عن رغبته في سحب جنوده بدلاً من الزج بهم في حروب لا طائل منها، وهذا يتعزز أيضاً عبر التقارير الواردة من فيينا التي شهدت في الأسابيع الماضية اختراقاً واضحاً على مسار التفاوض الأميركي- الإيراني الخاص بالعودة للاتفاق النووي، وهو ما يمكن لمسه في عودة فريق المفاوضين كل إلى بلده من دون الإعلان عن عثرات في التفاوض، وهذا يعني أن التوافقات وصلت إلى حدود توجب فيها الحصول على قرار سياسي يمكّن من الانتقال إلى سقوف أعلى، وهذا يتأكد أيضاً عبر الإعلان في إسرائيل عن إرسال وفد رفيع أواخر الشهر الجاري إلى واشنطن، والذي قيل إنه سيقدم «وثائق» تثبت «خداع» الإيرانيين للدول العظمى، في محاولة أقرب ما تكون إلى استخدام «الطلقة» الأخيرة الموجودة في الجعبة الإسرائيلية التي تبدو شبه خاوية من دون الحصول على «صيد وفير».
هذا كله، إذا ما أضيف إلى التشرذم الحاصل في المعارضة السورية التي باتت تصفها بعض السياسات الغربية بأنها تمر بحالة «موت سريري»، يؤكد أن الضجيج الغربي لن يتعدى حدود هذا التوصيف الأخير.
على المستوى الداخلي يبدي الشارع السوري حنيناً جارفاً لمناخات ما قبل آذار 2011، وهو، أي الحنين، وإن كانت ملامحه قد بدأت بالظهور قبل بضع سنين، لكنه اتخذ في الآونة الأخيرة مظاهر أكثر حدة وبروزاً، وعبر ذلك أصبح أكثر ميلاً لإسناد الدولة ودعم مؤسساتها لأنه بات يرى في هذين الفعلين السبيل الوحيد للخروج من «عنق الزجاجة» الذي دخلت البلاد فيه بفعل إقليمي دولي بالدرجة الأولى، ونحن ندرك، ونلمس، ذلك التعاطف الساحق الذي تبديه الأغلبية الساحقة في الشارع العربي، وكذا نخب فكرية وسياسية فيه، لحكم الرئيس بشار الأسد المعتد فقط بتأييد شعبه الذي لم ينفع معه مال ولا إرهاب في لي ذراعه.