ثقافة وفن

الترجمة الأولى لعمل الروائي الياباني «هاروكي موراكامي» التي تترجم من اليابانية إلى العربية مباشرة … رواية «مقتل الكومنداتور» في جزأين

| هبة اللـه الغلاييني

مثل كل أعمال الروائي الياباني المعاصر (هاروكي موراكامي) تنقلنا رواية (مقتل الكومنداتور) من عالم الواقع إلى اللاواقع، بطريقة سرد شيقة، تجعلك ما إن تبدأ بالرواية حتى تتمسك بها للنهاية. فهو كالعادة يستخدم عنصر الغموض والتشويق والإثارة التي تجعل القارئ يسرح بخياله بعيداً.
صدرت الرواية في عام 2017 على جزأين، الجزء الأول بعنوان (فكرة تظهر)، والجزء الثاني بعنوان (مجاز يتنقل). والرواية من ترجمة المترجم المصري (ميسرة عفيفي)، ونشرت في عام 2020، في دار الآداب. وتعد أول رواية تترجم من اليابانية إلى العربية مباشرة وليس من خلال لغة وسيطة.
وأحدثت هذه الرواية ضجة كبيرة فور صدورها في اليابان، واعتبرت (غير لائقة أخلاقياً) بسبب تناولها في الجزء الثاني مذبحة نانجنغ التي ارتكبها الجيش الياباني في مدينة صينية عام 1937، وراح ضحيتها نحو ربع مليون شخص.

تدور أحداث الرواية حول بطل الرواية، الذي لم يذكر اسمه فيها، وهو رسام متخصص بالصور الشخصية (البورتريهات). ينفصل الرسام عن زوجته بعد أن طلبت الطلاق، وأفصحت عن علاقتها برجل آخر. فما كان من الرسام سوى أن يترك منزل الزوجية، ويركب سيارته ويتجول في أنحاء اليابان، بعد أن تلقى صدمة نفسية من انفصاله المفاجئ عن زوجته. وبعد نحو شهرين يتصل بـ(ماساكيو أمادا) صديقه الوحيد وابن واحد من أشهر الفنانين اليابانيين، فيعرض عليه أن يسكن في بيت والده الذي أصبح خالياً. ويقع هذا المنزل في منطقة نائية وسط غابات، بالقرب من المحيط، ويطلب منه صديقه أن يقطنه بأجر زهيد كي يحرسه بعدما أودع أباه دار عجزة عقب إصابته بداء الزهايمر.
وفي هذا البيت البعيد عن الضجيج، تبدأ الأحداث المثيرة، تبدأ بسماع البطل لصوت جرس يأتي من حفرة عميقة في الغابة، كل ليلة في نفس الساعة المحددة من الليل، ويساعده في كشف مصدر هذا الصوت جاره الغامض (منشكي)، فحين ترفع الأحجار التي يأتي من أسفلها الصوت، يعثران على جرس قديم بعد أن قاموا بعملية حفر شاقة. ويحاول الاثنان فك لغز هذا الجرس. كما يسمع بطل الرواية أحياناً أصوات ضوضاء خافتة في الليل قادمة من العلية. وبسبب شعوره بالقلق من إمكانية وجود جرذان، غير أنه يعثر بجانب المدخل على لوحة ملفوفة بورقة بنية اللون. ويشير ملصق مرفق بهذه اللوحة إلى أن اسمها (مقتل قائد الفرسان) وهي إحدى أعمال أمادا غير المكتشفة، والتي تصور مشهداً دموياً مستقى من أوبرا (دون جيوفاني). ويصور العمل الفني المرسوم وفق نمط (نيهونغا) الياباني التقليدي أربع شخصيات رئيسية. حيث يصور شاباً غرس سيفه بعمق في صدر رجل عجوز بلحية بيضاء، في حين ينظر كل من الخادم وامرأة شابة بذهول للمشهد. وفي الزاوية السفلية اليسرى من اللوحة يبرز رأس شخصية أخرى من فتحة في الأرض، رافعاً غطاء مربعاً بشكل نصف مفتوح. ويصبح بطل الرواية مهووساً بهذا المشهد وخصوصاً بالشاهد السري ذي الوجه الطويل بشكل أكبر من الطبيعي حيث يشبه الباذنجان.
تتكئ الرواية في الكثير من تفاصيلها على أوبرا (دون جيوفاني) لموتسارت، التي تتناول حياة زير نساء، يتسلل إلى غرفة (الدونا آنا)، فيهب والدها لمنعه من الوصول إليها، فيقتله وهو يرتدي قناعاً، فتقسم الإبنة على أن تثأر لوالدها، وفي الرواية يقوم (توموهيكو أمادا) برسم لوحة لمشهد القتل، لكن بطريقة الرسم اليابانية التقليدية، فيجعل وجه القاتل مكشوفاً. تلك اللوحة يظن بطل الرواية أن فيها إسقاطاً على حياة الرسام الذي قضى جزءاً منها في النمسا في شبابه، وتم ترحيله سراً منها، بعد اشتراكه في قتل عدد من النازيين الألمان.
وتتماس هذه الرواية في أحداثها مع عدد من روايات موراكامي السابقة، مثل (كافكا على الشاطئ)، حيث الفكرة التي تتجسد للبطل وتخاطبه، وكذلك مع رواياته الأخرى التي يبدو فيها جلياً الولع بالطبيعة وتجليات فصولها وتبدلها، كذلك تعكس اهتمام الكاتب بالموسيقى الغربية الكلاسيكية، والربط بين شخوص وعوالم متباعدة لا روابط بينها، إلا الفانتازيا.
هذه الرواية تمثل امتداداً لعالم موراكامي الغرائبي، حيث ثنائية العالم المادي والعالم الآخر اللامرئي عندما تذوب الفواصل بينهما، فيصعب تمييز الحقيقي من الزائف. في ذلك العالم الروائي، تتجلى كذلك فكرة الصراع ما بين عالمي الروح والمادة وارتباط شخصياته برابط روحاني عجيب على الرغم من تباعدهم في العالم المادي الملموس، وتلك الرحلة التي يقوم بها أبطال رواياته ما بين العالمين، وهو ما يحدث في (مقتل الكومنداتور) و(رقص رقص رقص)… فلا يكاد يخلو عمل له من هذه الرحلة التي منها تنبع حرارة إبداعاته التي كتبت له شهرة عالمية، تجسدت في ترجمة رواياته إلى أكثر من 50 لغة.
ويؤكد موراكامي في (مقتل الكومنداتور) فكرة النسبية واختلاف الرؤية للإنسان طبقاً للمكان الذي ينظر منه، وفكرة تشظي العالم وعدم ثبوتيته، فهو في حالة ديناميكية مستمرة لا تعرف التوقف، وكل ذلك ينبع من الفلسفة الغربية التي اغترف منها هذا الكاتب الياباني، حتى بات واحداً من أبرز كتاب ما بعد الحداثة في الأدب العالمي.
ويلاحظ أيضاً حرص موراكامي في انتقاء الشخصيات التي يكتب عنها، فلا بد من أن يتمتعوا بمواهب خارقة في مجال ما من مجالات الحياة، ففيهم الذي يستطيع أن يكلم القطط، وفيهم الطفلة التي تبدع عملاً روائياً فذاً، وفيهم الرسام الخارق الموهبة الذي يستطيع أن يرسم ذوات الشخصيات من الداخل كما هو في بطل (مقتل الكومنداتور)، كما تظهر في أعماله قضية العنف ضد المرأة، إضافة إلى تركيزه على الهوية اليابانية وولعه بتقنية السارد العليم.
ولد هاروكي موراكامي في 12 كانون الثاني 1949 في اليابان عقب الحرب العالمية الثانية، لوالدين كلاهما يعمل في تدريس الأدب الياباني. في طفولته، كان يقرأ الأعمال الأدبية لعدة كتاب أميركيين. وقد تأثر بشدة بالثقافة الغربية منذ سن مبكرة، وغالباً ما يظهر هذا التأثير في أعماله الأدبية، مما يفرقه عن الكتاب اليابانيين الآخرين. في عام 1978، وأثناء مشاهدته لمباراة البيسبول، داهمه الإلهام لكتابة رواية. فشرع حينها في الكتابة، وانتهى من تأليف رواية (استمع للرياح تغني)، ثم توالت رواياته، ليحصد بعدها الجوائز العالمية في مجال الأدب.
تتمتع ترجمة ميسرة عفيفي بالقوة والسلاسة والبعد عن الحرفية، وهو من مواليد 1971، وتخرج من كلية العلوم- قسم الجيوفيزياء في جامعة القاهرة، وسافر إلى اليابان عام 1996، وله عدد من الترجمات عن اليابانية، منها (حكاية قمر والكسوف) لكيتشيرو هيرانو و(الإوزة البرية) لأوغاي موري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن