والكلام في غير موضعه ليس من فضة، سعيت دائماً إلى التجديد في المفاهيم والأقوال والأمثال السائدة، لأنها غدت بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة أمام ما وصل إليه العقل البشري من تنور وتفتح وإبداع في كل الوسائط، وبقينا نحن العرب نتكئ على الماضي بكل ما فيه، وأودعت سابقاً على خط بصركم إعادة إنتاج المقولة السائدة عدو عدوي صديقي، وقلت: إن صديق صديقي عدوي، وكذلك ناقل الكفر ليس بكافر، وقلت: إن ناقل الكفر كافر.
وهنا أشير مرة ثانية إلى أن نؤمن بأن كثيراً مما أسكن عقول الأجيال العربية المتعاقبة وعبر عقود حمل من الخبث الكثير بغاية زيادة تخلفها، ولذلك أحذف من المقولة السابقة السائدة «إذا كان» وأضع «لا» قبل الفضة وقبل الذهب، فالمثل الشائع ينبئ عما يحمله الإنسان، أو يرسم ملامح شخصيته التي تتراوح بين الركيكة أو السخيفة المهتزة أو المدّعية المتكبرة أو المتجبرة أو العاقلة المثقفة الراقية أو المفكرة القائدة ذات الحضور، من حديثها تنساب الفائدة، وعندما أقلب السائد والمتناقل أو المتوارث أو الذي جبلنا عليه، فغايتي تهدف للتفكر والتأمل والانتقال نحو الأفضل، فكيف بك تعرفني؟ وكيف بي أعرفك إن لم نتبادل الحديث ونخض غماره عبر حوار خلاق؟ نلتقط منه المفيد كي لا نبقى على أطرافه تائهين أو قابلين للسقوط، وأيضاً هنا أستند إلى مقولة قل لي من أنت فأعرفك وتعرفني، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، يسكن داخل الإنسان، يوسوس له من دون كلام، ويدفع به لكلام كي ينهيه إذا استجاب له.
ويختلف ما أعرضه هنا عن الصمت أو الإنصات اللذين يأخذان لاحترام لغة المتحدث المهمة، أو انتظار التوجيه أو الاستماع للنصيحة أو للغة المقدس في أماكن العبادة، أو في المناسبات المفرحة أو المحزنة، أو لحظة الاستماع للغة سياسية مهمة، تخص الأمة أو المجتمع أو النطق بالحكم على فرد أو مجموعة، وأؤكد أن السكوت أمام سؤال فشل، أما إذا أجاب بلا أعرف فقد أفتى، أو حقق معادلة دعوته، لكي يعرف، فلا يجب الصمت أو السكوت أمام الحق، أو في الامتحان، أو في الحوار، أو في لحظات إصدار قرار، أما إذا كان بعد الاستماع لكلام، وحدّث من أجل تحليل الكلام والخروج بنتائج تفيد الذات والآخر فيكون هنا أكثر من مهم.
السكوت حزن يأخذ بصاحبه للتفكر في عدم قدرته على الكلام المفيد أو البحث عما يستطيع أن يشارك فيه، وفي الوقت ذاته تزعجه الذكريات السلبية بتجولها، لذلك أجده فَنّاً له أسسه وقواعده، وكلما تفننت في استخدامه غدوت مبدعاً في كلامك، والسكوت في مجالس الكذب والنفاق حكمة، حاله حال الاهتمام بمن لا يهتم بك، فيغدو الكلام فيه إهانة، ومعه نجد أن السكوت لا يتجاوز صاحبه، فالكلام أفضل، لأنه يشرح الحال، وينبئ عن الأحوال، ينتفع به الناس إذا كان مفيداً، ويسقط مع صاحبه إذا كان رديئاً، ففيه أي الكلام تغذية للعقول، وتنبيه للحضور، وصحيح أن الإنسان قد يندم على ما تكلم به لحظة انفعال، أو من دون خبرة، أو حتى إن لم يكن متمكناً من خبرة أو مسألة أو جواب.
وهنا أؤكد أن الكلام مسؤولية مهمة، وهو جِدّ خطير، إذا لم يدقق في عقل ناطقه، فكم وكم أسيء به للآخرين، وكم استحضر من المتاعب للمتحدث غير العارف أو المتشدق، بما لا يملك، فالسكوت ليس من ذهب، لأنه يؤلم صاحبه، والكلام إن لم يكن مفيداً تذروه مع صاحبه الرياح، فلا يغدو له أي قيمة، وتسقط منه المنفعة، كما تسقط الحكمة بين الجهلاء.
خالف طبيعتك في بعض الأحيان، كأن تمضي وكأنك لم تسمع، وأن تصمت كأنك لم تفهم، وأن تتجاهل كأنك لم ترَ، وأن تنسى كأنك لم تتذكر، أعطِ كل شيء قدره المناسب، إن كان موقفاً أو مشكلة أو حديثاً، تحدث بالعلم أو بالفهم، واسكت من أجل أن تتعلم، لأنك إن ملكت هذا استطعت أن تجني الذهب والفضة، وبجهلك تضيع كل ذلك.