بعد زيارة لوالي خراسان عبد اللـه بن طاهر، خرج الشاعر أبو تمام من خراسان قاصداً العراق، فمر في طريقه بدار صديقه أبي الوفاء بن سلمة وألح عليه أبو الوفاء أن ينزل ضيفاً عليه لبضعة أيام فقبل، فإذا هو يصبح ذات يوم وقد سقطت أثناء الليل ثلوج غزيرة قطعت الطرق، ومنعت السابلة، فاغتم أبو تمام لذلك وأحرج صدره، وسعد أبو الوفاء، إذ ضمن صحبة أبي تمام لفترة أطول، وقال لضيفه:
وطن نفسك على هذا المقام فإن الثلوج لن تنحسر إلا بعد زمن طويل.
ولكي يضمن لأبي تمام تسلية يقطع بها الوقت، فتح له خزانة كتبه ووضعها تحت أمره، فإذا بشاعرنا يلتهمها التهاماً، لا مطالعة وحفظاً فحسب، وإنما اختياراً وغربلة أيضاً، وإذا به يصنف أثناء إقامته عند أبي الوفاء خمسة كتب في الشعر، أهمها ديوان الحماسة.
وقد نال ديوان الحماسة من الشهرة في العالم العربي ما يستحقه، فالواقع أن اختيار أبي تمام كان اختياراً موفقاً، فجامعه شاعر ممتاز مكنته شاعريته من أن يختار أحسن ما تقع عليه عينه، وهو إلى جانب ذلك من شعراء المعاني، فكانت المعاني هنا محور اختياره، يقرأ القصيدة الطويلة بأكملها فيعجبه منها معنى أو معنيان، فيختارهما من بين تلك القصيدة، وإذا لم يكن بينهما رابط ربط بينهما، وإن كانت هناك كلمة نابية غيرها بخير منها، فكان مختاراً ومنقحاً في آن واحد، وكان له أيضاً فضل تبويب الشعر، إذ لم نسمع بأحد قبله قسم الشعر هذا التقسيم، كانت هناك أولاً حركة الجمع، ثم حركة الاختيار حيثما اتفق في النظم، كالمفضليات والأصمعيات، وفي النثر كأمالي القالي، ثم جاءت حركة الاختيار المبوب، ولعل فاتحتها كانت أبا تمام.
ويظهر أن العادة فشت أولاً في أن يسمى الكل باسم أي جزء فيه، فكان هذا في تسمية سور القرآن، أن ورد في السورة ذكر البقرة فسميت سورة البقرة، وكذا سور الأنعام والنمل والنحل.. إلى آخره، ثم فشت عادة تسمية الشيء بأوله، فسمي كتاب الخليل بن أحمد بكتاب العين لأن أول أبوابه باب العين، وسمي ديوان أبي تمام بديوان الحماسة لأن أول باب فيه هو باب الحماسة.
كان أبو تمام بارعاً في اختياره، حتى كان طالب الأدب يحفظه أول ما يحفظ، وكم ألفت كتب المختارات من عهد أبي تمام إلى يومنا هذا ولكن لم يحظ منها ما حظي كتابه من حب واهتمام، وإننا لنجد كتب الأدب والنحو والصرف مليئة بتعبير: «قال في الحماسة» وتعني بقال: «قال أبو تمام» وبالحماسة «كتابه ديوان الحماسة»، أما عن غير باب الحماسة في الديوان من أبواب، فإننا نجد فيه من الأبواب المراثي، والأدب، والنسيب والهجاء، والأضياف، والمديح، والنعاس، ومذمة النساء.. إلى آخره.
وقد لاحظ العلماء أن أبا تمام يعمد أحياناً إلى تغيير نصوص الشعر كي يستقيم له أن يربط بين الأبيات التي تفككت بالحذف منها، أو ليستر عوار نقيصة أحس بها فيما اختاره، يقول أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي في مقدمته لشرح ديوان الحماسة.
وهذا الرجل، يعني أبا تمام، لم ينتق من أشعار مشاهير الشعراء دون المغمورين، ولا من الشعر ما يتردد على الألسنة دون غيره، بل نظر في كل دواوين الشعراء جاهليهم ومخضرميهم، وإسلاميهم ومولدهم، وأخذ منها الأرواح دون الأشباح، والثمار دون الأكمام، وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه، حتى إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيد فيه لفظة تشينه فيبدل اللفظة بأختها، وهو ما يتضح لمن رجع إلى دواوين الشعراء فقابل ما في اختياره بها.
وهذه التهمة، تهمة إقدام أبي تمام على تغيير النصوص التي اختارها، والتي يدعمها المرزوقي في أثناء شرحه، كان جديراً بها أن تنزل من قيمة الحماسة باعتبارها نصوصاً يستشهد بها في علوم اللغة والعربية، ولكنا نجد العلماء مجمعين على تزكية حماسة أبي تمام ونصوصها، بل يعدون صنيعه في الحماسة داعياً إلى الوثوق بشعر أبي تمام نفسه، والاستشهاد بشعره رغم كونه محدثاً كان المفروض ألا يستشهد بشعره في اللغة، فديوان الحماسة إذن هو ما جعل الناس يعتبرونه من علماء العربية، وما جعل البعض يقول: إن أبا تمام في اختيار الحماسة أشعر منه في شعره.
وقد حفظ لنا الحاجي خليفة صاحب كتاب «كشف الظنون» أسماء عشرين ممن شرحوا ديوان الحماسة لأبي تمام، منهم: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، وهو أول جامع لشعر أبي تمام، وأبو الفتح عثمان بن جني، وأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبو هلال الحسن بن عبد اللـه العسكري، وأبو المظفر الهروي، وأبو علي أحمد بن محمد المرزوقي، والخطيب الإسكافي، وابن سيده اللغوي المشهور، وأبو زكريا يحيى بن علي التبريزي «وهو شرح شهير متداول بين الناس إلى يومنا هذا والعكبري شارح ديوان المتنبي.
أما أشهر الشروح في زماننا فهو شرح المرزوقي «المتوفى عام 421 هجرية»، وهو الذي حققه ونشره عام 1951 أحمد أمين، وعبد السلام هارون، يقول أحمد أمين في مقدمة الكتاب:
«قرأت أول عهدي بالأدب شرح ديوان الحماسة هذا للتبريزي فلم يعجبني، لأن التبريزي نحوي لغوي أكثر منه أديباً وناقداً، فكنت أقرأ الشرح أحياناً وأنا متعطش جداً لأفهم معنى بيت فلا أجده، لأن الشارح انصرف إلى شيء آخر، ثم عثرت على نتف للمرزوقي فرأيتها تسد هذا النقص، ثم قرأت شرحه على مشكلات أبي تمام، فرأيته إماماً عظيماً لا يتهرب من المشاكل، لكن يتصدى لها، فوددت أنه لو عثر على شرحه لديوان الحماسة وأنه لو نشر، لأنه يكمل نقص التبريزي، فلما عثر عليه وجدته فوق ما أتوقع، ووجدت له مقدمة في النقد لم أر مثلها في اللغة العربية، فكم كنا نقرأ في كتب الأقدمين عن «عمود الشعر» ونحفظ الكلمة ولا نفهم معناها حتى شرحها لنا المرزوقي شرحاً دقيقاً وافياً، وكم له من حسنات أخرى غير هذه، فإخراجه للقراء يسد ثلمة، ويكمل نقصاً، وكما برع أبو تمام في ديوان الحماسة، برع شارحه المرزوقي، فوفى الكلام حقه، لغة ونحواً وصرفاً ومعنى ونقداً، فالكتاب في متنه وشرحه رغبة الأمل، وبغية المتأدب».