ثقافة وفن

آخر ظرفاء دمشق نصر الدين البحرة

| إسماعيل مروة

رحل الأديب والقاص والصحفي والذاكرة وظريف دمشق نصر الدين البحرة، رحل أبو عمر تاركاً فراغاً كبيراً في الذاكرة الدمشقية وذكرياتها.
قبل وقت كنا إذا أردنا معلومة عن دمشق وتاريخها الفكري الحديث أو عن تطوراتها السياسية، فإننا نتوجه للأستاذ المحامي نجاة قصاب حسن أو إلى الشاعر أحمد الجندي أو إلى الباحث منير كيال أو إلى حسني تللو أو إلى نصر الدين البحرة.
كل واحد يتوجه إلى الشخص الذي يريد، والأستاذ نصر الدين كان مميزاً بأشياء كثيرة، فصوته مختلف وكذلك نبرته وطبقته وأسلوب إلقائه.
وفي حضوره له بصمة مميزة بكل تفصيل وبكل حركة.
وفي معرفته يجمع البحرة بين الشفاهية والبحث بشكل مميز، وبقي يقصد المنتديات والمحاضرات حتى وقت قريب.
كان لأبي عمر آراؤه السياسية والفكرية وكان يعمل وفقها ويعيش من أجلها، لم يرتد عنها ولم يدركه الانقلاب عليها كما يحدث عند كثيرين.
صوته يرن في إذاعة دمشق.
وصورته تبدو على الشاشة، ويعتدل في جلسته على منبر من المنابر.. وربما إتماماً للمشهد تناول من جيب خلفي مشطاً صغيراً ليسوي ما تبقى من شعره.
عاش للتدريس عمراً، وأعطى الصحافة والإعلام أعماراً، وخاض غمار السياسة والنيابة والحياة البرلمانية.
وفي كل ميدان كان شخصاً مختلفاً ضاحكاً باسماً يعيش بحب ويجول شوارع دمشق.. لا يريد سواها.
عام 1988 التقيت الأستاذ نصر الذي كان اسمه ملء السمع والبصر، التقيته في دار للنشر قصدتها بغرض النشر، وهناك كان أبو عمر يضع اللمسات الأخيرة على مجموعة قصصية له «رقصة الفراشة الأخيرة» على ما أعتقد، ولم تكن الطباعة بهذا التقدم والإتقان وكان لابد للكاتب من زيارة الدار والمطبعة وهذا ما جعلني أقابل الأستاذ نصر أكثر من مرة وأن أتحاور معه.
وفي تلك المرحلة على ما أظن كان عضواً في مجلس الشعب.
واستمرت لقاءاتنا على تباعد، وكنت أتابع غناه المعرفي وذاكرته.
وفي غمرة الحرب على سورية والأحداث التي تعصف، بقي نصر الدين البحرة على آرائه لم يبدلها ولم يتحول عنها، ولكن الأكثر أهمية أن أبا عمر بقي في دمشق يرصد حياتها ويحمي نبضاتها ويتمتع بهوائها وإن لم يكن عليلاً، فهو عنده عليل وعليل.
بقي نصر الدين البحرة وحيداً في دمشق لكنه كان سعيداً يراقبها وتراقبه، يحتسي شرابها وتزيد له ويستهويه هواؤها ويستطيبه.
سبعة وثمانون عاماً عاشها نصر الدين البحرة وهذه الأعوام كانت كافية لتضع بصمته في الميادين الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية.
الأكثر أهمية الإشارة إلى خسارة الذاكرة الدمشقية والظرافة لآخر ممثليها.
رحمك اللـه أبا عمر، فقد كنت مثالاً في الحياة والمبدأ والتطبيق والبساطة.
مقاهي دمشق وشوارعها ومنتدياتها ستسأل عنك وعن طلتك وصوتك كثيراً.
تستحق أيها الأستاذ كثيراً من التحليل والكلام والتوثيق.. والأهم تستحق الحب، وأنت ممن حرص على الحب والبساطة في حياته.
رحل الأستاذ البحرة وقد كان أديباً وراوية وذاكرة وما شئت من الصفات.
إلى الزاوية الراقية من الذاكرة يذهب نصر الدين البحرة بعد أن وهنت قواه في حب الأدب وعشق دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن