رحيل أبرز رموز الثقافة السورية المعاصرة … نصر الدين البحرة.. أحب دمشق حبّ العشاق المتيمين فخلّد معالمها
| وائل العدس
يعد من جيل الرواد في كتابة القصة القصيرة إلى جانب عبد السلام العجيلي وأديب النحوي وحسيب كيالي وألفة الإدلبي، وقد استفاد في كتاباته القصصية من التراث العربي، ومن أعمال كتّاب الواقعية العالميين أمثال تشيخوف وموباسان وأوهنري، لكن الميزة الأشد وضوحاً هي أن قصصه مأخوذة من فضاء الحياة الاجتماعية اليومية في دمشق بشكل خاص.
كتب الشعر العمودي وقصيدة النثر والدراسات الأدبية والسينمائية والتاريخية، وله مقالات كثيرة منشورة في الصحف السورية والعربية.
ينتمي إلى الجيل الثاني المؤسس للثقافة السورية المعاصرة وأحد أبرز رموزها منذ خمسينيات القرن الماضي.
ظل مخلصاً للضحك رغم تجهم ملامحه، فكان آخر كتبه بعنوان «الضحك تاريخ وفن»، معتبراً الجاحظ أبا الضحك العربي من دون منازع، وآملاً أن يسير على خطاه في توثيق خصائص الضحك المعاصر.
إنه الكاتب الشامل والمتنوع نصر الدين البحرة الذي طوى تجربة إبداعية امتدت لأكثر من خمسين عاماً في الكتابة والتأليف والعمل الإذاعي والتلفزيوني بعدما فارق دمشق التي عشقها حتى الثمالة وأرّخها في كتابه «دمشق الأسرار» مستعيداً حواريها وأزقتها وطرائفها وهويتها المعمارية، لكن حكاياته التي لا تنتهي عن دمشق القديمة التي ولد في أحد أحيائها انطفأت، فكان يوم الخميس موعداً مع الرحيل عن عمر ناهز 87 عاماً متأثراً بمضاعفات فيروس كورونا.
تلقى الكثير من الإغراءات لمغادرة دمشق لكنه لا يستطيع العيش خارجها، فهي عشقه الأبدي وملهمته الدائمة.
مسيرة غنية
ولد الراحل في حي مئذنة الشحم في دمشق القديمة في 15 آب عام 1934، ثم انتقل مع والده لحي المهاجرين حيث كان يتسلق الجبل ليشرب من النبعة، وبعد أن توفي والده عام 1941 عاد لحيه فعاش الفلكلور الدمشقي الشعبي بكل معنى الكلمة، وفي عام 1950 انتقل للسكن في حي القيمرية في حارة رابعة الشامية.
بعد المرحلة الإعدادية أتم دراسته في دار المعلمين التي استمرت ثلاث سنوات والتي كانت تجمع ضمن مناهجها المرحلة الثانوية والتربية والتعليم، وقد مر عليه خلالها عدد كبير من الأساتذة منهم زكي الأرسوزي وأنطون مقدسي وشاكر مصطفى وكان الأول باللغة العربية ما أهله للندب من أجل التدريس الثانوي مباشرة.
عندما أنهى دراسته الثانوية بدأ بدراسة الفلسفة ليتخرج في جامعة دمشق حاملاً إجازة في الفلسفة والدراسات الاجتماعية.
اشتغل في التعليم الابتدائي والثانوي مدرساً للفلسفة واللغة العربية في دمشق وبيروت، وإلى جانب رسالته التدريسية عمل بالصحافة في أواسط الخمسينيات فكان محرراً وأمين تحرير لعدد من الصحف الصادرة في دمشق «صوت العرب والوعي والصرخة والطليعة والرأي العام».
منذ عام 1952 كان يقدم برامج إذاعية في إذاعة دمشق ومن أشهرها برنامج «أوراق وذكريات» الذي كان يذاع صباح كل يوم أحد، وقام بكتابة تمثيليات من التاريخ العربي، كما قدم وشارك في تقديم كثير من برامج التلفزيون العربي السوري.
أعارته وزارة التربية عام 1966 فعمل في جريدة «الثورة» معلقاً سياسياً ومحرراً رئيسياً، ثم أمين قسم الدراسات، وترأس بعد ذلك قسم الأرشيف، وتولى أمانة تحرير الجريدة حتى عام 1969، حتى أُنهيت إعارته وعاد إلى وزارة التربية السورية للتدريس.
يعد من المؤسسين في المسرح القومي السوري، وفي عام 1960 أخرج مسرحيتين من فصل واحد الأولى «دقة الساعة» لتوفيق الحكيم والثانية «إشاعة» للكاتب المصري عبد الرحمن الخميسي وكانت باللهجة المصرية حولها للهجة الشامية وعرضتا على مسرح دمشق الدولي.
انتُخب في الدور التشريعي الرابع عضواً في مجلس الشعب السوري بين 1986-1990 عن مدينة دمشق، وكان مستشاراً ثقافياً وإعلامياً لرئيس المجلس وأنشأ مجلة «مجلس الشعب» وترأس تحريرها.
كان عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، ورئيس تحرير مجلة «التراث العربي» التي يصدرها الاتحاد منذ عام 1997، كما كان رئيس إدارة فروع الاتحاد في سورية.
هو عضو جمعية القصة والرواية، وعضو عامل في اتحاد الصحفيين السوريين.
نال عام 1955 الجائزةَ الأدبية الثانية في مهرجان وارسو الدولي للشباب والطلاب عن قصته «أبو دياب يكره الحرب».
مؤلفاته
صدر له كتاب عنوانه «الضحك تاريخ» من مجلدين ضمن 700 صفحة.
وللأديب الراحل ست مجموعات قصصية هي «هل تدمع العيون» عام 1957، و«أنشودة المروض الهرم» عام 1972، و«رمي الجمار» عام 1980، وقصص الأطفال «أغنية المعول» عام 1978، و«رقصة الفراشة الأخيرة» عام 1989، و«محاكمة أجير الفران» عام 1998.
من دراساته الأدبية «أحاديث وتجارب» و«الأدب الفلسطيني المعاصر بين التعبير والتحريض» عام 1977.
وله دراسة سياسية بعنوان «الثورة في إفريقيا» عام 1969، وأخرى تاريخية توثيقية بعنوان «دمشق الأسرار» عام 1993.
في الشعر له ديوان بعنوان «البستان» صادرة عن اتحاد الكتّاب العرب عام 1997.
دمشق الأسرار
من أعماله يبقى كتاب «دمشق الأسرار» مرجعاً في بابه، وخصوصاً في طريقة العرض العاطفية التي كتب بها، حيث بدا الكتاب كأنه قصيدة في حب دمشق التي يقول في بداية الكتاب إنها أكبر من كل الروابط التي عرفها «كأني منها ذلك الجنين المرتبط بها بذلك الحبل السري».
يتحدث كتاب «دمشق الأسرار» عن عشق الأديب لدمشق المولع بها أشد الولع، وقد استطاع أن يجمع كل ما ألفه المؤلفون عن حبيبته، وكتبه الكاتبون عنها، وما تغنى به الشعراء والأدباء في محاسنها وبديع جمالها وبارع وسامتها ومفاتن سحرها، وقد قصد الأديب من دمشق الأسرار أسرار محاسنها وأسرار عشقه لها، وأسرار مكنون حبه لمعالمها ومجاليها، وخفيّ تعلقه بها في ماضيها وحاضرها وفي استشراق مستقبلها. يحيا حياتها الواسعة الثرية ويتنسم عبيرها وهي تدنو منه وتحدثه بلغة ودية بليغة.
عمد بموهبته القصصية الفنية أن يجرد من نفسه شخصاً آخر على طريقة الشعراء العرب القدماء ويصطحبه في ربوع دمشق، ويريه ما رآه من المحاسن ويشرح له ما يتملاه من بدائع القسمات، وما يتأمله من أوابد الآثار ويدعوه ليشعر معه بأدق الفروق بين تلك المحاسن في مختلف المراحل والأطوار، وفي شتى الفصول والأيام والساعات.
حب الراحل لدمشق حب عميق وشديد كحب العشاق المتيمين، إنه روحي وحسي معاً، حبه ملتحم التحاماً فيزيولوجياً بدمشق.