قضايا وآراء

اغتيال ذاكرة ونهب تراث وطن

| أحمد ضيف الله

بعد أقل من شهر على احتلال القوات الأميركية وسيطرتها على العاصمة بغداد وفي الـ6 من أيار 2003، قام 16 جندياً أميركياً من «وحدة ألفا» باقتحام أحد أقبية مخابرات الرئيس الراحل صدام حسين في بغداد، بناء على معلومات سرية، واستولوا على 200 صندوق تحوي الآلاف من الوثائق والمستندات والمخطوطات والمؤلفات النادرة الخاصة بتاريخ وتراث اليهود العراقيين، من بينها على سبيل المثال، كتاب مقدس باللغة العبرية يعود إلى 400 سنة، وكتاب تلمود عمره 200 سنة، ومجموعة من الخطب المطبوعة لحاخام من ألمانيا تعود لعام 1692، ونقلته على عجل إلى المحفوظات الوطنية للولايات المتحدة في واشنطن، وبعد انكشاف سرقة الوثائق تلك، أُبلغت الحكومة العراقية المؤقتة الواقعة تحت سلطة الحاكم المدني بول بريمر بذلك، مدعية أن الوثائق نقلت لترميمها بعد أن وجدت مبتلة وفي حالة يرثى لها بسبب تعرضها للغمر بالمياه في الأقبية!
قوات الاحتلال الأميركي استولت على كامل أرشيف الدولة العراقية وتاريخها، مركزة في سرقاتها ونهبها على ثلاثة أنواع من الوثائق، أمنية وعسكرية، أرشيف حزب البعث، وكل ما يتعلق بتاريخ وتراث اليهود في العراق، المخزنة في القصور الرئاسية وأجهزة المخابرات ومقار حزب البعث، إضافة إلى سرقتها كمية كبيرة من الكنوز والنفائس من مخازن المتاحف العراقية.
البيان المشترك الذي صدر عُقب الجولة الثالثة من الحوار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأميركية في الـ7 من نيسان الماضي، أشار إلى أنه أعيد للحكومة العراقية 6.5 ملايين وثيقة من أرشيف حزب البعث في آب 2020، مؤكداً عزم الدولتين «على التعاون لإعادة الممتلكات الثقافية العراقية التي أدخلت إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، إلى مكانها الصحيح في العراق»، بحسب البيان.
الولايات المتحدة الأميركية ومنذ أن سرقت أرشيف الدولة العراقية بشكل منظم ومحترف، لم تلق بالاً لمطالبات العراق المتكرّرة باستعادة آثاره المنهوبة وعلى رأسها أرشيف يهود العراق، وظلت تماطل وتتجاهل تلك المطالبات، بداية قالت إنها ستعيده منتصف عام 2006، ثم صمتت لغاية أيار 2014 لتعلن أنها ستقوم بتسليم جزء من الأرشيف اليهودي العراقي في أيلول 2018، إلا أنها لم تقم بتسليم العراق هذا الأرشيف وغيره، وظلت تكذب في وعود التسليم.
في الـ15 من كانون الثاني 2013، جرت مراسم دينية يهودية خاصة لدفن أجزاء وصفحات تالفة من محتويات الأرشيف اليهودي العراقي في مقبرة «نيو مومنتيفور» التابعة للجالية اليهودية في ضواحي مدينة نيويورك، قيل إنها تحمل طابعاً مقدساً ولم تعد مناسبة للاستخدام والتداول.
وبمراسم دينية تخللتها الأهازيج والتراتيل وتوزيع الحلوى، أُقيم في القدس المحتلة حفل استقبال لوصول مخطوطة نادرة للتوراة في الـ22 من كانون الثاني 2015، المعروفة بالنسخة العراقية من أسفار العهد القديم، والمكتوبة بعصير الرمان المركز على جلد حيوان الأيل، بحضور مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية وحاخامات يهود ومواطنين، لتحل في أروقة وزارة الخارجية الإسرائيلية في القدس المحتلة، ونقلت وكالة «أسوشييتد برس» عن وزير الخارجية الإسرائيلي في حينها، أفيغدور ليبرمان قوله: إن «رحلة المخطوطة التي عثر عليها في مخزن المخابرات العراقية إلى المعبد اليهودي في الوزارة تمثل مصير اليهود».
إن عملية دفن صفحات قيل إنها تالفة من محتويات الأرشيف اليهودي العراقي في نيويورك خطيرة جداً، ويشوبها الكثير من الضبابية، فلا أحد يعرف، لا الجهات العلمية المتخصصة عن ماهية تلك الوثائق وتفاصيلها، ولا الحكومة العراقية، التي ليس لديها جرد بمحتويات الأرشيف لمطابقته مع الموجود في الولايات المتحدة، كما أن المخطوطة التي أُحتفي بها في إسرائيل كانت إحدى الكنوز التراثية المسروقة من الدولة العراقية.
إن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 المتخذ في الـ22 من أيار 2003، الذي اعتبر أن أميركا وبريطانيا وحلفاءهما هي دول احتلال وعليها التزامات قانونية تجاه البلد المحتل وهو العراق، شدد على «ضرورة احترام التراث الأثري والتاريخي والثقافي والديني للعراق، ومواصلة حماية مواقع الآثار والمواقع التاريخية والثقافية والدينية والمتاحف والمكتبات»، إلا أن الولايات المتحدة لم تلتزم بالقرار الدولي، وتجاهلت كل الاتفاقيات الدولية، كحظر النهب بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1907، وحماية التراث الثقافي بموجب إعلان لندن لعام 1943، واتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، واتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بصورة غير مشروعة.
الجيش الأميركي القوي الذي جاء ليحرر العراق وينشر الديمقراطية والسلام فيه، كان أحد أهدافه هو تدمير وسرقة الموروث الحضاري والتاريخي والثقافي للعراق، وتسليم أرشيف اليهود العراقيين لإسرائيل لوضعه في خدمة المخططات الصهيونية، وهو حدث خطير ينطوي على أبعاد إستراتيجية مرعبة.
إن ما جرى هو اغتيال للذاكرة ونهب لتراث وطن ومحو لإرثه التاريخي، من قبل دولة عظمى تدعى الولايات المتحدة الأميركية!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن