قضايا وآراء

التقارب السعودي الإيراني.. مضيعة للوقت أم لزوم المرحلة المقبلة؟

| فرنسا - فراس عزيز ديب

في كتابه «خطابات السلطة، من هوبز إلى فوكو»، يلفت الكاتب باري هيندس النظر إلى القدرة التي تمتلكها أي سلطة على إعادة إنتاج خطابها أو إعادة إنتاج نفسها، تحديداً عندما تتشكل لدى مواطنيها قناعة التمرد على فكرة «التشكيل الذاتي»، أي وضعه في بوتقة ما تمهيداً لإخضاعه، هذا التمرد حسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كان في الدول الأوروبية سبباً في تحول مفهوم الخلاص بمعناه الديني الذي أرساه نفوذ الكنيسة في السياسة والمجتمع، إلى خلاص بمعناه الدنيوي يستند إلى مفاهيم الأمن والرخاء الاقتصادي.
واقع الحال يقودنا إلى مسلمة أن فكرة إعادة الإنتاج تلك هي حاجة لكل الدول من دون استثناء، تستند في الأساس إلى المقومات التي أرست دعائم الوجود، وتستبعد بواقعية ما وبعيداً عن العواطف كل ما يعوق عملية التحول تلك، بل إن هذه الحيوية في التبديل قد تكون الركيزة الأساسية لاستمرارية الدول وهي تختلف من دولة إلى أخرى بحسب المقومات، كما أن مقياس التحول هذا لا علاقة له بالإنجازات بل بالاحتياجات، فالدول التي تعيش في ظل أنظمة سياسية عفا عنها الزمن قد تكثر إنجازاتها لكنها عملياً بحاجة للكثير من العمل حتى تحقق الحد الأدنى من هذا التحول.
في شرقنا البائس تبدو جميع الدول ودون استثناء بحاجة لإعادة إنتاج هذا الخطاب وبدرجات متفاوتة، عندما نشاهد عمليات إعادة الإنتاج تلك علينا ببساطة عدم التعاطي معها بسلبية، على الأقل لننتظر النتائج أو لنحاول استقراءها بعيداً عن العواطف، فما الجديد؟
سواء تتفق أم تختلف مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلا أن حديثه الأخير للإعلام السعودي بدا كمراجعة حاول من خلالها إعادة إنتاج الخطاب السياسي للمملكة، بل تعداه في السياسة إلى ما هو أبعد من مجرد إعادة إنتاج، قد ينجح وقد يفشل، قد يكون صادقاً وقد تكون مناورة لا يبدو أن هناك ما يشرح لجوءه إليها، فعلى سبيل المثال ليس هناك ما يجبره على التبرؤ من الوهابية القميئة التي أرست دعائم مملكتهم عقوداً، بل تجاوزها ليصل إلى مرحلة المراجعة للأحاديث الدينية، خطوة تبدو في الاتجاه الصحيح، بل لعل طرحه هذا تجاوز فيه دولاً أكثر عراقة وحضارة تبدو فيها المؤسسة الدينية جاهزة في كل وقت لتكفير كل من يقترب من تلك «المنسوخات» التي أساءت للإسلام أكثر مما أساءت له الدعاية الغربية.
أما في السياسة، وفي الجانب الأهم، فيبدو شكل العلاقة مع إيران الذي يوحي بتقارب ما أحد أبرز النقاط التي تناولها، لأن تقارباً كهذا يضع حداً للخطابات والخطابات المضادة التي تبدأ بالمذهبية والتكفير ولا تنتهي إلا بتهديد كل طرف للآخر، تحديداً عندما تصبح تلك الخطابات مصدر رزق يعتاش عليه من يسعون لتغذيتها، لدرجة يمكننا فيها الجزم بأن أسباب الخلاف بعيداً عن التصريحات والتصريحات المضادة هي أسخف من أن يتم اعتبارها سبباً جوهرياً لأي قطيعة، من بينها مثلاً: كذبة الصراع المذهبي.
بالمبدأ العام، علينا التمييز بين الصراع المذهبي بوجود مذهبين متناحرين يكفّر كل منهما الآخر ويدعو لقتله، وبين صراع نفوذ سياسي بغطاء مذهبي، ففي الحالة الأولى تبدو فكرة القبول بالآخر مرفوضة وهي لا تنطبق على الحالة الإيرانية السعودية، فإيران المتهمة بالسعي لتشييع الشرق الأوسط لا يمكن الجزم بأنها إلغائية وإلا فماذا يفعل السنة في إيران؟ وفي الوقت ذاته لا تبدو السعودية تعتمد الفكر الإلغائي مذهبياً وإلا فلماذا لم يتم فرض الوهابية على الشيعة والإسماعيليين في السعودية؟
هذا يقودنا لفكرة أن الصراع هو صراع نفوذ يحاول فيه كل طرف شد العصب المذهبي عندما ترتفع حدة التوتر في منطقة الخليج العربي، هذا ما يفسر مثلاً العلاقة العميقة لإيران مع النظام التركي الذي هو بالنهاية نظام إخواني ومجرم يدّعي تمثيل المسلمين حول العالم، وفي الوقت ذاته العلاقة السعودية بمرجعية النجف في العراق التي تراها جزءاً من هذه المعركة، دون أن ننسى العبارة الأهم التي قد لا تروق للمستفيدين من فكرة تأجيج هذا الصراع: إن ربط كل شيء بفكرة الصراع المذهبي هو تجسيد ساذج لفرضية أن إيران الممثل الوحيد لنهج آل البيت عليهم السلام، والسعودية هي الناطق الرسمي باسم السنة النبوية الشريفة، وفي الحقيقة فإن نهج آل البيت عليهم السلام والسنة النبوية الشريفة أكبر من اختصارهما بدولة أو حزب أو تنظيم، ما يعني عملياً أن الصراع هو صراع خيارات يطرح علينا سؤالاً منطقياً: ما حدود التقائهما؟
عندما بدأت همروجة التطبيع قبل أشهر، هناك من تجاهل القضية الفلسطينية من أساسها وخرج بتحليلات ليقنعنا بأن هدف التطبيع هو تشكيل جبهة ضد إيران، مع العلم بأن العلاقة بين إيران والمطبعين الجدد أو القدامى على أحسن حال، فماذا سيسمي لنا اليوم الانفتاح السعودي الإيراني الذي لم يقتصر فقط على كلام محمد بن سلمان، بل ترافق مع ردّ مباشر من النائب الأول للرئيس الإيراني اسحق جهانغیري، أعرب فيه عن رغبة بلاده في التوصل إلى تفاهم مع السعودية بشكل عاجل!
في الطرف الآخر هناك من تحدث عن الدور التخريبي لإيران في العراق وسورية واليمن، وقرب نهاية «النظام الإيراني» بعد عودة العقوبات الأميركية والانسحاب من الاتفاق النووي، وفي الحقيقة هذه الدعاية تشابه تلك التي كانوا يبثونها لأمعات المعارضة السورية بأن اصمدوا فـ«النظام السوري» سيسقط خلال أشهر، وما النتيجة؟
إذاً ليس بالضرورة أن تلتقي تلك الخيارات، المهم هو تفهم تلك الخيارات وهنا نبدو أمام مثال بسيط: القوات السعودية التي جاءت إلى البحرين تمت دعوتها من الحكومة البحرينية، وبالطريقة ذاتها فإن المستشارين العسكريين الإيرانيين في سورية جاؤوا بدعوة من الدولة السورية، وهذا الأمر ينسحب على الكثير من الملفات، لكن أين سورية من كل ذلك؟
هنا علينا أن نميز بين مفهومين:
أولاً- حدود التأثير: دائماً ما يبالغ البعض في رسم محددات الدور الذي قد تضطلع فيه هذه الدولة أو تلك، في العلاقة بين السعودية وإيران يبالغ المحسوبون على كلا الطرفين في الحديث عن آثار المصالحة أو المقاطعة على الملفات العالقة، علماً أنه إذا استثنينا الحرب على اليمن والتي يمتلك السعودي فرصة إنهائها حقناً لدماء المزيد من الأبرياء، فإن كلا الطرفين لا يملكان أي تأثير نهائي بأي ملف، وفي سورية لا يختلف الأمر كثيراً، فالسعودي فقد منذ زمن القدرة على التأثير عندما اعتمد الخيارات الخاطئة بالوقوف ضد الدولة السورية ما فتح المجال للتركي ليعبث كما يشاء، أما الإيراني فهو في الوقت ذاته يعرف حدود «موانته» كصديق وحليف، على هذا الأساس لا تبدو هذه المصالحة ذات تأثير كبير.
ثانياً- العودة لوجهة النظر السورية: هنا بيت القصيد، سورية وفي أوج الحرب التي تخاض ضدها لم تتخلَّ يوماً عن قناعاتها، وفي الوقت ذاته لم تقف يوماً بوجه أي محاولات لرفع اليد عن مسمار الأمان قبل انفجار هذا الشرق، سورية التي تعي أكثر من أي دولة في العالم معنى الدمار والخراب كانت ولا تزال ترى أن الإرهاب فكرة قبل أن يكون شخصاً، وأن الخليج العربي هو امتداد طبيعي وجغرافي لا يمكن الخروج منه، والعلاقة مع إيران يجب أن تكون مكملة لنا لا نقطة خلاف، قد تصل متأخراً لكن المهم مع حمام الدم المفتوح في هذا الشرق البائس أن نصل، ما يجري حكماً ليس مضيعة للوقت، ألم نقل يوماً: انتظروا تصاعد الدخان من مسقط! دون أن ننسى أننا جميعاً بحاجة إلى إعادة إنتاج خطابنا السياسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن