قضايا وآراء

أكرم بـ«باب العمود» غدا موحِّداً لفلسطين

| عبد المنعم علي عيسى

ستكتب رئيسة الوزراء الإسرائيلية الرابعة غولدا مائير في مذكراتها عن حادثة حرق المسجد الأقصى 21 آب 1969: «لم أنم طوال الليل خوفاً من أن العرب سيهجمون علينا من كل مكان، وعندما أشرقت الشمس أدركت أننا نتعامل مع أمة نائمة نستطيع أن نفعل بها ما نشاء»، كانت تلك الحادثة أول عملية جس نبض بعد زلزال حزيران 1967.
بالتأكيد كانت فكرة قيام الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين تقوم في أحد مرتكزاتها على حال من الوهن كانت تعيشه دول المنطقة برمتها، لذا فإن من الجائز النظر، وفق هذا المقياس السابق، إلى وعد بلفور البريطاني 1917 على أنه وعد بتوريث الكيان اللاحق نسيجَاً اقتصادياً وعلماً متفوقاً على ذلك المحيط، أكثر من كونه وعداً بقيام كيان قومي لليهود، لأن هذا الوعد الأخير كان قائماً بالفعل، بمعنى أدق كان الغرب قد توصل منذ حملة نابليون على مصر وسورية (1798-1801) إلى قرار يقضي بوجوب قيام حاجز جغرافي عازل يقوم بدور الفصل ما بين الشرق العربي وبين غربه.
لكن، كما يبدو عبر سطور مائير سابقة الذكر، لم تكن التقديرات الغربية والإسرائيلية تدرك إلى أي مدى وصلت إليها تلك التهتكات الحاصلة في نسيج المجتمعات العربية وقواها الفاعلة التي كانت حالها، ولا تزال، محط اهتمام صناع القرار لدى هؤلاء، بدرجة أكبر بكثير من اهتمامها بحال الأنظمة التي تحكمها، والنظرة الإسرائيلية إلى معاهدات «السلام» المعقودة مع كل من المصريين والأردنيين والفلسطينيين تحمل الكثير من الريبة تجاه جدواها بالنسبة للأمن الإسرائيلي على المدى الطويل وإن كانت تلك النظرة إيجابية لها، أي لتلك المعاهدات، على المدى القصير بقدر ما تتيحه هذي الأخيرة من فرصة للولوج إلى دواخل تلك المجتمعات ومراقبة التحولات الحاصلة فيها بل العمل على التأثير فيها وشدّها نحو اتجاهات خادمة للمصالح والأهداف العليا للكيان.
بهذا المعنى كان حرق المسجد الأقصى اختبارياً، وبشكل ما يمكن النظر إلى إعلان «صفقة القرن» يوم 28 كانون الثاني عام 2020 على أنه يستمد من روحية استنتاج غولدا مائير الوارد أعلاه روحية شبيهة بها، مما يمكن لحظه في الفترة المديدة التي فصلت ما بين الإيماء الأميركي بها في عام 2017 وبين التجلي المباشر سابق الذكر، وطول المدة من الممكن قراءته على أنه ترقب يريد التبصر في دراسة ردات الفعل على مستوى الشارع وقواه الفاعلة، على التحولات التي شهدتها المرحلة الفاصلة ما بين الإيماء والتجلي المباشر، من عيار اعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في كانون الأول 2017، ثم اعترافه أيضاً بسيادة هذي الأخيرة على الجولان السوري المحتل في آذار 2019، وما بينهما قرار وقف التمويل الأميركي لمنظمة «أونروا» آب 2018 الذي شكل محاولة لتصفية القضية الفلسطينية انطلاقاً من نسف ملف اللاجئين وإقرار حق العودة، وهو ما استشرفته تل أبيب بشكل مسبق عبر استحضار مناخات هذا القرار الأخير، التي كانت تعتمل في دوائر صنع القرار الأميركية، ولولاها لما ذهب «الكنيست» الإسرائيلي إلى إقرار قانون «يهودية الدولة» في تموز 2018 أي قبل أيام من قرار وقف التمويل الأميركي لأونروا الذي كانت تلك المناخات تشي بحتمية صدوره.
بدورها كانت هذه المحطات السابقة نتاجاً طبيعياً يستحضر، أو هو يستثمر، في الزلزال العربي البادئ في بغداد نيسان 2003، والذي كانت له تداعيات أخطر بكثير من تداعيات سقوط فلسطين نفسها أيار 1948، والمتمركز فيما بعد في الانهيارات التي كانت موجتها الأولى قد بدأت في تونس أواخر عام 2010 لتتابع تمددها نحو ليبيا فمصر ثم اليمن وسورية عام 2011، ثم لتليها الموجة الثانية عام 2019 في السودان والجزائر ولبنان والعراق، وهي كلها كشفت عن أمراض عضال في بنية المجتمعات العربية لعل أبرزها سياسياً كان قد تمظهر في انكسار حاجز المحرمات في العمل السياسي الذي قام أساساً على نزعة الاستقواء بالخارج، أياً يكن هذا الخارج، للتأثير في موازين القوى الداخلية، ما شكل حافزاً هائلاً لتكرار الاختبارات، أفضت استنتاجاته إلى أن الحروق في تلك البنى المجتمعية قد وصلت إلى الدرجة الخامسة التي يصعب شفاؤها.
لا تختلف السلوكيات الإسرائيلية التي قادت نحو انتفاضة «باب العمود» في شهر رمضان الجاري عن تلك السابقة، فوضع الحواجز التي هدفت إلى الفصل بين المقدسيين وأسواق البلدة القديمة، وإن كانت خطوة على طريق تهويد المدينة، إلا أن الفعل يستحضر عملية جس النبض أولاً قبيل الولوج في مسار كهذا يدرك الإسرائيليون مدى حساسيته، والعملية تبدو رهاناً على أن «جيل أوسلو»، وقد بلغ الثامنة والعشرين من عمره، قد انطفأت فيه جذوة «الإيديولوجيا» بعدما شكل الاتفاق اعترافاً بالهزيمة في ميادين البندقية، وكذا ميادين السياسة كنتيجة للفعل الأول.
فجأة، ومن دون مقدمات، بدا كأن المشهد قابل للانقلاب على عقبيه، وأخطر ما رأته تل أبيب، في المشهد الجديد، هو تناغم حركات الجسد الفلسطيني برمته حتى بدا كأن كل الخلافات قد طويت تحت الوسادة، في استشعار ينذر بأن ثمة إصراراً لدى الأجيال اللاحقة، بدرجة لا تقل عن نظيرتها السابقة، على ثبات الهوية الضامنة على الدوام لصون الحقوق وبقاء فلسطين.
لعل الحدث يكتسب أهميته الاستثنائية من اللحظة الحرجة التي جاء فيها، والتي لم تكن تدخل بالتأكيد في حسابات الشبان المرابطين على مدرج الباب، إذ من المؤكد أن اللحظة التي تمر بها إسرائيل داخلياً، تشير إلى خلل واضح في غرف صناعة القرار السياسي الإسرائيلي، وهو يتمثل في تغليب الحسابات الانتخابية، أي الشخصية، على تلك الحامية للكيان الذي يحتاج كل يوم للقيام بخطوة كي يشعر فيها بأنه قائم فعلاً.
لعل النجاحات التي حققها المشروع الإسرائيلي معتداً بدعم غربي غير محدود، وعلى كل الصعد، والتي كان آخرها النجاح الجزئي في تحوير العدو الخارجي الإسرائيلي إلى إيران لدى البعض، وجلهم في الخليج، يزيد من قتامة المشهد، إلا أن هذا لا يعني أن الأخير ماضٍ نحو قتامة أكثر، ولعل القيمين على المشروع هم الأكثر يقيناً بذلك، والحسابات لن تظل سائرة هكذا على دقات ساعة «بيغ بن» الشهيرة بانتظامها المعروف، والمستقبل دون أدنى شك هو لشعب فلسطين المتجذر على أرضه منذ آلاف السنين، وحسبه في ذلك توحيد صفوفه الذي يمكن أن يغيّر المعادلات، ويقلب الموازين، برغم خذلان العديدين لهم ممن كانت حساباتهم مرحلية، وقصيرة المدى، لحل مشكلة هنا، أو للكسب في موقف هناك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن