قبل قرنينِ من الزمن، صدرَ في باريس قانون مدعوم من السلطات الكنسية يحظُر على النساءِ ارتداء ملابس الرجال، كان ذلك في العام ألف وثمانمائة، ليبقى هذا القانون ساريَ المفعول بكل حذافيرهِ لمئةِ عامٍ تقريباً، حيث أُدخلت بعض التعديلات على تعليماتهِ التنفيذية في العام ألف وثمانمائة واثنين وتسعين سمحت من خلالهِ الشرطة الباريسية للنساء بارتداءِ السراويل الفضفاضة شريطةَ تزامن الارتداء مع قيادةِ الدراجة أو لِجام الحصان.
بقيَ هذا القانون ساريَ المفعول حتى تم الغاؤه في العام ألفين وثلاثة عشر بذريعةِ أن هذا القانون يتعارض مع مبادئ المساواة، لكن اللافت أن النائبَ الذي طلب إلغاء القانون «آلان هوبيرت» تعرض للسخرية وهناكَ من اتهمه بالبحث عن «الخبطة الإعلامية» لا أكثر عبر طلب إلغاء هذا القانون، لأن هناك الكثير من الأشياء الملحة التي تخدم المواطن أهم بكثير من قانونٍ منسي يكسوهُ الغبار ولا يُطبق، حتى إن وسائل التواصل الاجتماعي ضجت بالسخرية من هذا القانون لأن الأغلبية من الفرنسيين ماكانوا يعرفونَ بوجودهِ أساساً.
إذن، في كلِّ دول العالم هناك قوانين تبدو خارجَ سياق العصر لكنها لا تُطبق، وإن كانت لا تزال موجودة فهذا لايعني بأن هذه الدولة متخلفة قانونياً تحديداً عندما يكون القانون منسياً، هو أشبه بالموت الضمني للقوانين نتيجة لعدم الاستخدام، لكن لماذا استذكار بنطال المرأة الباريسية في هذهِ الأجواء الرمضانية؟
دائماً ما يُطالعنا من يُسمّون أنفسهم قادةَ رأي على وسائل التواصل الاجتماعي وتحديداً طبقة «عبدو العلماني» بمنشوراتٍ عن قوانينَ عفا عنها الزمن، ولكي يتلاعبوا بمشاعرِ الناس تبدأ الحكاية بادعاء صدور القانون حديثاً، وعندَ انكشافِ كذبهم ينتهي الأمر بعبارة «حتى ولو كان قديماً لماذا لايزال موجوداً»؟ موشح اعتدنا عليهِ من تلك الإمعات التي لا توفِّر أي طريقةٍ لكسب الشعبية بما فيها «التحريض المبطن»، هؤلاء يتجاهلون أن من بديهيات التأثير لأي قانون هو التنفيذ، هل سمِعَ أحدكم يوماً بأن مواطناً سورياً سُجن لأنه مفطر؟! حكماً لا، تماماً كما أنني لم أسمع عن امرأة باريسية سُجنت لأنها ارتدت البنطال!
ما زلنا نحتاج إلى الكثير في معركةِ التوعية، هناك من لايدرك حتى الآن أن العلاقات الإنسانية كانت محكومة بالعرف لتتحول إلى شبه قانونٍ اجتماعي، هل هناك من قانون يُجبر أصحاب المحلات التجارية على الإغلاق عندَ مرور جنازة لأحد أبناء الحي؟ حُكماً لا فلماذا يفعلونَ ذلك؟ وبالاتجاه المعاكس هناك قوانين قديمة تحولت إلى عُرف بحكم التماسك الاجتماعي، تُرى هل حقاً هناك من يخاف من العقوبة فلا يجاهر بعدم الصيام أم إنه يخشى أن يوصفَ بقلةِ الاحترام؟
في الخلاصة: لا نعرف ماذا ينتظرنا في قادمات الأيام من قوانينَ مترهلة ليستخدمها البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، لكني ببساطة ومنذُ اليوم لن أكترثَ لما ترتديه الفتاة الباريسية، ولا من يجاهر بعدم الصيام، كل ما سأكترثُ إليه هوَ البحث عن مادة قانونية ولو كان عمرها مئات السنين عسانا نعيد إحياءها من جديد، مادة قانونية تقول بصراحةٍ ووضوح:
الجاهل الذي يتكلم بشؤونِ العامة يُقطع عنه الانترنت حتى التثبت من قدراتهِ العقلية.. ليتها كانت موجودة!