ثقافة وفن

سيف سبيعي.. يضع الدراما السورية «على صفيح ساخن»!

| سارة سلامة

يخترق مسلسل «على صفيح ساخن»، مشاكلنا وأوجاعنا ويضعها على مجهر يقترب من قاع المدينة أكثر، وكأن الكاتبين يامن الحجلي وعلي وجيه يثبتان كاميرا على شرفة، ويقومان بزووم ليغوصا بتفاصيل الأزقة والحارات، ومنها إلى عالم النباشين حيث تتجمع أكوام القمامة، تبتعد المدينة عنه تاركة للمكان أناساً يعيثون فيه فساداً، يخيم الظلام على علاقاته، تحكمه المصلحة والجشع والقهر.. تنصهر هذه الشخوص غير آبهة مع فوضى المكان، تتعرى أمام الحدث والموقف، تلهث وراء منفعتها، تذهب للآخر في نفق حياة وجدوا أنفسهم فيه سواء أكانوا مسيّرين أم مخيرين.

في مجتمع تسقط فيه الأقنعة تشغله الحاجة المترفة لجمع المال، الاقتراب أكثر جعله يتجرد من كل الألوان والتفاصيل، العلاقات توقد على نار يشوبها الاستغلال، يوغل العمل في حياة نباشي القمامة وسط مكب نفايات، لطالما سمعنا أن من ورائه شبكات تسيّر نباشيه، الآن بدأنا نتقفى أثرهم على صفيح ساخن.
كما يتطرق العمل إلى مفردة مهمة وجريئة لم تطرح سابقا، وهي نشر التطرف الديني، من خلال شخصيات عديدة مرتبطة بالممنوع تارة ، وبالمجتمع تارة أخرى ومنها شخصية «أم كرمو»، ناظلي الرواس حيث تقوم بنشر الإسلام تحت سطوة المال والسلطة، هي نموذج حقيقي لما عمل الكثيرون على زج بلدنا به، نبذ التفكير الحر وجر الناس إلى العباءة الدينية.
ومنذ الإعلان عن بدء انطلاقة المسلسل «تأليف علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج سيف الدين سبيعي بطولة كل من باسم ياخور، سلوم حداد، أمل بوشوشة، ميلاد يوسف، نظلي الرواس، عبد المنعم عمايري»، كان هناك مراهنة من صنّاعه على النص المتقن والسيناريو المكتوب بحرفية عالية، بمنطق لا يحتمل الثرثرة ومسار لا إطالة فيه، ونرى أن كل مشهد وجوده ضرورة وليس ترفاً، فهنا لخص الكاتبان الإبداع في حكاية محكمة البناء وسيناريو لا يحتمل التكرار.
ويحظى العمل على نسبة مشاهدة عالية من الجمهور منذ عرض الحلقة الأولى، بعد أن تصدر مشهد صفع الممثل باسم ياخور الذي يجسد شخصية هلال شقيقته هند، كما أن قصة النباشين التي يحاكيها العمل تطرح للمرة الأولى في الدراما السورية وتركز على فئة كبيرة من الناس.

أداء لافت

واللافت أيضاً هو تجسيد الممثلين وحالة التبني التي سيطرت عليهم منذ بدء العمل، نراهم يندمجون مع الشخصيات في حالة نشوة مع الذات.

حيث يتفوق سلوم حداد على نفسه في شخصية «الطاعون» أو «زهير الطير»، يستخدم أدواته بإتقان وديناميكية وشغف من دون أي تكلف، في شخصية مركبة مسيطرة قوية.

يامن الحجلي يكسر نمطيته ويلفت الأنظار من خلال شخصية عياش وكأنها فصّلت على مقاسه، حيث يسردها بعمق داخلي في ردات فعلها وشكلها ونطقها، جعلتنا نتعرف إليه بصعوبة، بصلعة وشعر على الجوانب، إضافة إلى الإصابة في إحدى عينيه، تقمص الدور بإتقان وتماهى معه بحرفية، جميل هذا التبني الحقيقي ومقنع هذا التجلي.

نظلي الرواس هنا لا تمثل هي حقيقية مختلفة فرصها كبيرة ومساحاتها واسعة، ولديها قدرات هائلة في تبني الشخصيات والاندماج معها روحاً وشكلاً ونطقاً كما عملت «أم كرمو».

على حين تروي سمر سامي بدورها «شمس الموازيني»، حكاية امرأة متوحدة مع زمن آخر.. تحاول استرجاع حقوقها من البلد حول قطعة أرض لها تحولت إلى حديقة عامة، تختار كل شيء بما فيه فنجان قهوتها بدقة وتراتبية معينة، هي حالة من الهوس أبدعت في صنعها سمر سامي.

في كل مكان تكون فيه أمل بوشوشة هناك فن وإبداع، هي قيمة بحضورها وأدائها وطلتها وخفة ظلها نحب عطاءها مبدعة توغل بالمحلية كأنها بنت هذا المكان.

باسم ياخور نحتاج دائماً إلى وجوده في تلك الأدوار التي ينجزها من باطن شخصيته ويتفاعل معها للحظات أبكانا وأحزننا، لا بديل منه، كان لا بد من استثارة شغفه ليبدع أكثر وأكثر ويؤثر فينا كما فعل في شخصية «هلال».

ميلاد يوسف يخطف الأنظار هذا الموسم يتربع على عرش نجوميته، هو ضرورة ملحة في العمل، لديه قدرة كبيرة على التلون والتماهي مع الشخصية لأنه يمتلك كل الأدوات التي تجعله يولد الإبداع.

ويحضر عبد الرحمن قويدر بشخصية «الخفاش»، وهي إحدى شخصيات العمل الرئيسية واليد اليمنى لشخصية «الطاعون» التي يجسدها النجم سلوم حداد، حيث يصنع شخصيته بتكنيك وانضباط وإيقاع، فيظهر بشكل مميز وقريب من المشاهد على الرغم من أنه قاتل وسارق ومهرب.

وفي هذا الوسط والسواد ينعكس نور داخلي يخيم على المكان، من خلال علاقة حب أبطالها نجوم شباب ورغم بساطة علاقتهم إلا أنهم أعطونا دفعة عالية من الأحاسيس ربما تتفوق على جرعة حب تركية، حيث يأخذنا كل من سليمان رزق وجنا العبود تلك الموهبة القادمة التي تؤدي بكل عفوية وبساطة وصدق إلى حالة من العشق نصدقها وتقنعنا بكل براءتها.
أخيراً من حقنا أن نفرح بإنجاز سيف سبيعي المخرج الشغوف الملم بتفاصيل العمل المتمكن من صياغة الحكاية بأسلوب متقن، في الزوايا واللقطات والتركيز على ملامح الشخصيات، من الواضح تبنيه للحكاية لتكون أمامنا بكل هذه الجمالية، إضافة إلى عناصر الإضاءة والديكور كلها متناسقة محبوكة ومميزة.

لنقول أخيراً إن الدراما تتوق إلى هذا الصفيح الذي يقدم عملاً سورياً اجتماعياً ببطولة جماعية، ليفسح المجال لغيره، ويؤذن بأن الدراما السورية حان وقت انطلاقتها واسترجاع عصرها الذهبي، حان الوقت لنمتع المشاهد بقصة وحبكة وإخراج ومجموعة أبطال شغوفين، حان الوقت لنخرج من عباءة سنوات الحرب ونزيح التذمر، الآن يجب أن نقدم حكاية مختلفة مثيرة للاهتمام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن