لم تتضح معالم السياسة التي تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه الأزمة السورية في غضون المئة يوم الأولى من تسلم هذا الأخير للسلطة في واشنطن، حتى إن بايدن تجاهل أي ذكر لها في الخطاب الذي ألقاه بتلك المناسبة يوم 28 نيسان الماضي، لنراه يتحدث فقط، بشكل عام، عن الإرهاب في الشرق الأوسط ووجوب القضاء عليه، ولهذا التجاهل، بالتأكيد، دلالات عدة، وهو لم يكن مصادفة أو إنه جاء بطريقة غير مقصودة، ومن الراجح أن الفعل هنا مرده لحالة التشابك الحاصلة بين الأزمة السورية، والعديد من الملفات الإقليمية ولعل أبرزها الملف الإيراني الذي كان، حين إلقاء الخطاب آنف الذكر وإلى اليوم، لا يزال يشهد آلام ما قبل الولادة التي ستخرج للنور وليداً سيكون ذا شأن بدرجة يفوق ذاك الذي جاء عليها «شقيقه» المولود قبل 6 سنوات ودخل مرحلة «الموت السريري» قبل نحو عامين بفعل إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب انسحاب بلاده منه منذ أيار من عام 2018.
منذ أن تسلمت إدارة بايدن السلطة في واشنطن كانت تبدي في سلوكها ميلاً نحو التريث تجاه تحديد توجهاتها السورية، الأمر الذي يمكن تلمسه في عدم ذهاب تلك الإدارة نحو تعيين فريق متخصص بالشأن السوري، وفي التصريحات التي كان يطلقها بايدن ومسؤولوه من الصف الأول، والتي كانت تتصف بالعمومية، وهي كلها لم تخرج عن النغمات التي كانت سائدة على امتداد السنوات السابقة، من نوع وجوب القضاء على الإرهاب وضرورة تحقيق الانتقال السياسي المشار إليه في القرار 2254، وعليه فإن حالة التريث آنفة الذكر، والتي أكدها المبعوث الأميركي السابق لـ«قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش» ويليام روباك عندما قال في حديث له مع جريدة الشرق الأوسط نشرته في 7 شباط الماضي «إن بلاده ليست في عجلة من أمرها في سورية» هي التي تبرر حالة «التجاهل» التي ذهب إليها الرئيس الأميركي في خطابه بمناسبة مرور 100 يوم على تنصيبه، وتبرر أيضاً حالة عدم التناغم بين أجزاء نقل الحركة في تلك الإدارة وصولاً إلى إمكان أن نسمع تصريحات متضاربة تجاه مسألة واحدة.
أقامت منظمة «مواطنون من أجل أميركا آمنة» السورية الأميركية في 30 من نيسان الماضي، مؤتمراً افتراضياً بعنوان «استقرار سوربة، الفرص والتحديات، وخيارات السياسة الأميركية»، حيث سيشهد هذا الحدث الظهور الأول للممثلة الأميركية الخاصة بسورية بالإنابة «إيمي كوترونا» منذ أن جرى تعيينها في هذا المنصب في شباط الماضي، وعلى الرغم من أن ذلك الحدث كان يمكن له أن يمثل «إطلالة» أميركية على «السفح السوري» يسهل من خلاله وضع تصورات أولية حول ما ارتسمت في «العقلية» الأميركية من حلول تعيد «الخضرة» إلى ذلك السفح المتعب، إلا أن أمرين مهمين حالا دون ذلك، أولهما حالة التريث سابقة الذكر التي تبديها واشنطن تجاه المسألة السورية، وثانيهما صفة بـ«الإنابة» التي حملتها كوترونا التي كانت نجمة ذلك المؤتمر، وكلا الأمرين يفرض قراءة المواقف، وكذا التصريحات، على أنها مرحلية، بمعنى أنها تجري لتمرير مرحلة انتظار يفترض أن تتكشف بانقضائها آفاق مرحلة جديدة، ثم تبنى التصورات التي تتصف بالديمومة.
تحدثت كوترونا، فأرغت وأزبدت، وفي الذروة من ذينك الفعلين طالبت المنظمة بتسمية ما يحصل للسوريين بـ«محرقة الهولوكوست»، وناشدت إدارتها مساعدة السوريين على تجاوز تلك المحرقة «عبر المسار السياسي، بعد تحويره من لاعبين دوليين آخرين» في إشارة واضحة إلى روسيا، وإذا كان من الجائز التوقف عند ذلك التوصيف مع إمكان أخذه بعين الاعتبار قياساً للكوارث التي حلت بالسوريين، والتي دخلت ما بعد «قانون قيصر» مرحلة الشروع بشن حرب «إبادة جماعية» تفوق تلك التي تعرض لها العراق بين 1991-2003، وتداعياتها على السوريين ستكون أشد وقعاً قياساً إلى الفرق بين قدرات البلدين، لكن الصورة لا تتضح هنا دون تحديد معالمها كلها، وفي محاولة للقيام بهذا الفعل الأخير سنسمع لأحد عتاة المنظرين الغربيين المعروفين بعدائهم لدمشق، والذي يمكن وصفه بأنه شديد الاطلاع على ما يجري داخل دهاليز السياسة الغربية التي تكاد تنتهي من تحضير «طبخة مسمومة» لهذا الشرق البائس، حتى تبدأ بواحدة أخرى أشد سمية.
يقول كريستوفر فيليبس في كتابه «معركة سورية التنافس الدولي في الشرق الأوسط الجديد» الصادر في عام 2018 «إن التدخل الأجنبي في سورية أطال الحرب السورية بدلاً من المساعدة في حلها»، إذاً الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، هو الذي قادنا نحو هذه المحرقة، دون أن يعني ذلك إلغاء لدور «الحطب اليابس» الذي راكمه «الكرم» السوري، وهو الذي نفذ في العراق وسورية مشروعاً ممنهجاً ستثبت الوثائق التي سوف تتكشف لاحقاً أنه كان يقوم بالدرجة الأولى على تدمير شيفرة النهوض في المنطقة المختزنة على DNA بلاد الشام وبلاد الرافدين، وما «المحرقة» التي تعرض لهما شعباهما إلا وسيلة لتدمير تلك الشيفرة.
في مطلق الأحوال لا يمكن أخذ المواقف التي أطلقتها كوترونا على أنها تعبر عن إستراتيجية محددة سوف تعتمدها إدارة بايدن في تعاطيها مع المسألة السورية للاعتبارات سابقة الذكر، وهي لا تتعدى أن تكون تلميعاً لصورة السياسة الأميركية التي شابها في الآونة الأخيرة الكثير من الرماد فيما يخص تعاطيها مع الأزمات الإنسانية التي كانت السورية منها تحديداً الأشد وطأة من بين نظيراتها على امتداد العالم، والفعل، أي محاولة التلميع، هو الذي اقتضى أن يحتل الحديث عن الحالة الإنسانية «المرعبة» في سورية كل تلك المساحة التي احتلها، وكأن بلاد المتحدثة بريئة «كبراءة الذئب من دم يوسف» من دماء السوريين، ومن حالة التشرد التي جابوا عبرها كل أصقاع هذي الأرض باحثين عن مأوى في «تغريبة» فاقت كل التغريبات حتى الفلسطينية منها.