قضايا وآراء

انقلاب في نظرية بن غوريون

| رفعت إبراهيم البدوي

كتب أول رئيس للوزراء وقائد حركة استقلال الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون معلناً عن نظريته التي تضمن الحفاظ على هذا الكيان قائلاً: إن على إسرائيل العمل مع حلفائها وبكل الوسائل على محاصرة العالم العربي، الذي يشكّل الخطر الرئيس في وجه توسّع الكيان الصهيوني، وخصوصاً دول هذا الغلاف الجيوسياسي التي تدور في فلك الغرب والولايات المتحدة، بمعنى آخر اللجوء إلى افتعال صراعات وحروب وذلك لمنعها من التعاون الإيجابي وتوحيد الرؤى فيما بينها.
استجابت الولايات المتحدة لنظرية بن غوريون وكان الهدف المعلَن هو إقامة أحلاف أميركية مع بعض دول الإقليم ولاسيما النفطية منها، وذلك لقطع التواصل بين تلك الدول الخليجية وبين الدول العربية التي تشكل الطوق مع الكيان الصهيوني وعلى الأخص مصر وسورية، أما لبنان والأردن فهما عبارة عن بلدان هجينة ويمكن احتلالهما بفرقة موسيقية إسرائيلية حسب مزاعم موشي دايان.
قادت الولايات المتحدة مهمة تشتيت الدول العربية عن الهدف الرئيس وهو احتلال الصهاينة لفلسطين عبر أحلاف مع بعض الدول النفطية تارة تحت عنوان التصدي للشيوعية وتارة باسم استقرار المنطقة، تحدّد أهدافه وأبعاده الولايات المتحدة نفسها، باختصار كانت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ينسقان خطواتهما في الإقليم لمنع قيام أي تحالف عربي بهدف حفظ المصالح الأميركية في المنطقة ولتثبيت الكيان الصهيوني كأمر واقع ولضمان هيمنته على المنطقة.
خروج مصر العربية أكبر دول الطوق من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي بعد اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة عام 1979، شكّل فجوة كبيرة في الجسم العربي المناهض للمشاريع وللأهداف الأميركية الصهيونية وخصوصاً بعد ترك سورية العروبة وحدها في ساحات النضال ضد العدو الصهيوني.
في العام نفسه الذي خرجت فيه مصر من الصف العربي معلنة السلام مع العدو الصهيوني أتى الإعلان عن انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وسقوط حكم الشاه الذي كان يعتبر شرطاً أميركياً موكلاً بأمن المنطقة وضامناً للمصالح الأميركية بالحفاظ على الكيان الصهيوني.
منذ اللحظات الأولى لانتصار الثورة في إيران أعلنت قيادتها دعمها للقضية الفلسطينية ودعمها لحقوق الشعب الفلسطيني، وبادرت في أولى خطواتها إلى إغلاق سفارة العدو الإسرائيلي في إيران وتحويلها إلى مقر لسفارة دولة فلسطين، كتعبير صادق عن دعمها وتأييدها لفلسطين ليس كموقف إعلامي إنما كتعبير عن جدية إيران في تبنيها للقضية الفلسطينية والتصميم على تحرير القدس من براثن الاحتلال الإسرائيلي كهدف غير قابل للمساومة أدخل في صلب الدستور الإيراني كمبدأ ثابت لا يتغير مهما تبدلت فيها توجهات القوى السياسية.
أدرك الرئيس الراحل حافظ الأسد سريعاً وبنظرته الإستراتيجية أنه لا بد لسورية من ملء الفجوة العربية التي أحدثتها مصر لتعديل ميزان القوى وعدم ترك الساحة أمام عدو مغتصب لفلسطين ومحتل للجولان ولجنوب لبنان.
الرئيس حافظ الأسد وجد في إيران داعماً وسنداً قوياً لمناهضة مشاريع الولايات المتحدة وإيقاف المشروع التوسعي للعدو الإسرائيلي في المنطقة ما يضمن استمرار سورية بالإمساك بأوراق القوة في الصراع العربي الإسرائيلي، وكضمان للأمن القومي العربي، فكان أن توجه نحو إيران لبناء حلف إستراتيجي معها في خطوة تعتبر من أهم الخطوات التي أعطت آثارها الإيجابية الإستراتيجية في تثبيت مبدأ الصراع العربي الإسرائيلي.
وهنا لا بد لي من ذكر ما دار في اجتماع الرئيس حافظ الأسد مع أحد وزراء الخارجية العرب الذي جاءه ناقلاً عتباً عربياً على تحالفه الإستراتيجي مع الثورة في إيران معتبراً أن هذا التحالف يخالف التوجه العربي.
الرئيس حافظ الأسد أجاب ضيفه هل بإمكانك تفسير معنى التوجه العربي؟ هل التوجه العربي يعني إقامة سلام مع العدو الإسرائيلي؟ وأضاف الرئيس الأسد: أنتم تريدون من سورية فك تحالفها الإستراتيجي مع إيران لأنكم تريدون لسورية السير مع منظومة عربية أعلنت السلام مع العدو الإسرائيلي وهذا مستحيل، وختم حافظ الأسد قائلاً: إن سورية هي قلب العروبة وستبقى ضامنة للأمن القومي العربي مهما بلغت الضغوط ولن تكون جزءاً من منظومة سلام واهٍ مع عدو مغتصب للأرض وللحقوق العربية.
في عام 1982 وعقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان تشكلت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول» التي خاضت أشرس المعارك مع العدو الصهيوني في العاصمة بيروت وفي مختلف المناطق اللبنانية.
وفي العام نفسه ظهر لأول مرة حزب اللـه الذي استبسل في مقاومة العدو الإسرائيلي بدعم مباشر من سورية ومن الثورة في إيران.
نجحت سورية والمقاومة في إسقاط اتفاق 17 أيار المشؤوم وبذلك استعادت سورية والمنطقة نوعاً من التوازن المفقود بعد خروج مصر من الصف العربي.
من هنا بدأت التحوّلات الإستراتيجية في التراكم وبدأ محور المقاومة بالتشكل بعد نجاحه في طرد قوات حلف الأطلسي من لبنان ومن ثم تحرير الجزء الأكبر من جنوب لبنان عام 2000 ودعم الانتفاضات في فلسطين حتى الوصول إلى تشكيل قوى عسكرية تشكّل ردعاً إستراتيجياً في مواجهة العدو، يمتدّ من غزة في جنوب فلسطين إلى لبنان في شمالها.
الولايات المتحدة ومعها أوروبا والعدو الإسرائيلي راهنوا على استمالة سورية نحو الغرب عبر البوابة التركية القطرية في عهد الرئيس بشار الأسد وبالتالي يمكن فصل سورية عن حلفها الإستراتيجي مع إيران، بيد أن الرئيس بشار الأسد بقي مؤمناً ثابتاً وأكثر عزماً على التمسك بحلفه الإستراتيجي مع الثورة الإيرانية.
الرؤية الإستراتيجية للرئيس بشار الأسد المتمثلة في تمسكه بالحلف مع إيران أثبتت صوابيتها ونجاعتها وخصوصاً لجهة دعم سورية لعمليات المقاومة ضد القوات الأميركية في العراق، وتمثلت بدعم لا محدود للمقاومة في غزة، ولحزب اللـه اللبناني الذي حقق نصراً مدوياً على العدو الإسرائيلي في حرب تموز 2006 الذي شكّل المتغيرات الإستراتيجية في المنطقة وترجم في تحقيق توازن ردع مع العدو الإسرائيلي شمالاً مع لبنان وجنوباً مع غزة امتداداً إلى سورية الجولان وحديثاً دخلت اليمن كإضافة إستراتيجية ثمينة عززت خط محور المقاومة، وبالتالي أصبح قوس حصار دولة الكيان الصهيوني شبه مكتمل رغم كل الاتفاقيات ورغم موجة التطبيع مع العدو الإسرائيلي وبعض الدول العربية.
على وقع انتفاضة المقدسيين المترافقة مع التخبط السياسي في الداخل الإسرائيلي وانكشاف مدى ترهل الجبهة الداخلية للعدو الصهيوني وتراجعه عن إجراءات تعسفية بحق منازل الشيخ جراح، جاء تحذير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر اللـه الموجه للعدو الصهيوني من القيام بأي عمل طائش بعد إعلان الأخير عن المناورة العسكرية الأضخم لمحاكاة حرب متوقعة على جبهات الجولان ولبنان وغزة.
تحذير نصر الله تزامن مع إعلان الاستنفار العام لدى كل من حزب اللـه وقوى المقاومة في غزة وفي الجولان كقوة مقاومة واحدة يمكنها الإطباق على العدو الصهيوني إذا ما وقعت الحرب، وهذا دليل بأن نظرية بن غوريون بمحاصرة دول الطوق العربية قد انقلبت وبالاً إستراتيجياً على هذا الكيان الغاصب.
اليوم صار الكيان الصهيوني محاصراً من محور مقاوم شديد البأس، ولذلك نستطيع القول إن ما كتبه وما خطّط له بن غوريون ونتنياهو قد ذهب هباء منثوراً، وإن آخر منتجات الغدر والخيانة المتمثّل بالتطبيع لا يعدو كونه جر تلك الدول المطبعة إلى جحر محاصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن