ثقافة وفن

«بنيان» حكاية وطن وقصة صمود …الجرح يختبئ صامتاً خلف نشوة العز

محمود الصالح

 

يقولون شَح المطر…. يقولون يَبس الشجر…. لكنهم لا يدركون أن المطر أصبح لونه أحمر… وأن الشجر عاد ليورق من جديد…. وأن الدرب بالحجر أصبح أصلب…. فأنتم أيها الشهداء بدمائكم رويتم الأرض…. وأورقتم الشجر…. ليصبح الدرب أوضح. بهذه الكلمات قدمت السيدة سهيلة العجي والدة الشهيد بنيان بدر ونوس أحد أبطال أسطورة مشفى الكندي في حلب، وتقول إنها لم تفكر يوماً من الأيام في معاقرة الكتابة ولكن قصة استشهاد ابنها وغيره من الشهداء جعلت منها كاتبة وأصدرت كتابها الأول بعنوان «بنيان»، والقارئ لما كتبته أم بنيان يعيش هاجسين الأول: لمن لا يشبهها يقول: أيعقل أن أماً تفيض حزناً يُسكب أدباً وشعراً بقلم مداده دم ابنها بنيان؟ فتختلط الصورة، وكأنها تخاطبه في عالم محسوس غير مشهود، أي كأنه في رحمها وقد تجذر بالأمشاج وأغلقت كل نوافذ الزمان ليبقى وهي لغة الخطاب.

والهاجس الثاني: يحلم أن يشبه أم بنيان معتقدا أن الحزن، وكفى، قادر على صهر البنيان وتفجير ينابيع الدمع والدم إلى يوم الحساب. لكن شتان فلكل أم قصة نسجها الإله وأطلق لصاحبتها العنان كي يختبر إيمانها وصبرها وثباتها وقوة بأسها وعزمها. لكن السر فيما سكب بين دفتي الكتاب هو عشق إلهي أودعه في قلوب الأمهات مفتاحه ولد أراد باستشهاده أن يرتقي إلى حيث وعده الإله.
تقول أم بنيان: في بلدي…. يختبئ الجرح صامتاً خلف نشوة العز والفخار برجال حموا الديار…. في بلدي…. تختنق الغصة في الحلق لتتفجر زغاريد وأهاليل في أعراس بلغت من السمو حد النجوم.
تبدأ صفحات الكتاب الأولى برسالة الشهيد بنيان إلى والدته، ويقول فيها: أكتب إليك هذه الرسالة وقلبي يعتصر حزناً لبعدي عنك، وجسدي يرتعش لفراقك، ولكن الظروف أجبرتني. لا تظني أنه إذا ازدادت المسافات أو اشتد عودي ونمت ذقني وقست ملامحي، قد أتغير، لا يا أمي فأنا ما زلت ذلك الطفل الذي كان يشم ثيابك ويشهق من البكاء لفراقك، لم تستطع الشمس أن تدفئني مثل أحضانك ولا الأزهار أن تعطف علي كذراعيك، ولكن لا تحزني فأنا قويت من حليبك وكبرت من كبريائك وصمدت من صبرك لكي أقف شامخاً على حمى بلادي وأرفع راية وطني براقة في الأعالي كي يظل الأبناء مع أمهاتهم، فسامحيني، أتمنى أن تظلي كما عهدتك منبع التفاؤل وألا تذرفي الدمع لغيابي فإني سأعود قريباً فلا تخافي… «ابنك المشاكس بنيان».
وتتوالى الرسائل من أم بنيان، رسائل وصلت إلى ملايين القلوب وأصبحت جزءاً من التاريخ، رسائل توثق يوميات العشق والفداء ابتداء من العشرين من كانون الأول لعام ألفين وثلاثة عشر عندما فجروا سيارتين مفخختين في مدخل مشفى الكندي، هذا المشفى الذي شكل مدرسة في الصمود والبذل والفداء…. وتقول لمشفى الكندي: أغار منك يا من ملكت أطهر من على الأرض…. يا من تعطرت بأزكى روائح البطولة والتضحية والفداء…. في الأول من كانون الأول عام ألفين وثلاثة عشر تقول: هم اتصلوا من رقمك ليقولوا «ابنكم معنا ماذا عسانا نفعل به إذ نسأله أن يعلن انشقاقه عن الجيش فيجيب(الجيش العربي السوري وقائده أبي وأمي وسورية بلدي وهذا علمي، وبدكم تذبحوني اذبحوني) سنحيله إلى المحكمة الشرعية ونقرر». وتضيف هم ظنوا أنهم سيحرقون قلوبنا عليك وأننا سنتوسل إليهم… لكن أيعقل أن يحدث هذا وأنت الرجولة كلها… أنت العز والشموخ… عار علينا أن نخاف وأنت أمامهم لم تخف…. عار علينا أن نبكي… في التاسع عشر من كانون الثاني عام ألفين وأربعة عشر ينتشر خبر إعدام أسرى مشفى الكندي من أبطال الجيش العربي السوري، وفي اليوم التالي ومن مئذنة جامع جبل المريقب في الشيخ بدر أذيع اسمك بكثير من الوقار… وكثير من الخشوع… لتردده الجبال في وسع السماء «الشهيد البطل النقيب بنيان بدر ونوس» وتتوالى الصور الرائعة التي ترسمها المبدعة «أم بنيان» وأتوقف عندما تقول: سأزور مشفى الكندي…. سأزور مشفى الكندي وهي قبلتي… سأزورك يا حبيبي…. هل سأرى أثراً من كتابات رحالة الكندي… في السادس من أيار عام ألفين وأربعة عشر تقول: لأنه عيد ميلادك الأول في الجنة… أول عيد سنزفه عريساً لكم يا شهداءنا العظماء… أنتم الأحياء ونحن الأموات….. سامحونا.
في الثاني والعشرين من أيار عام ألفين وأربعة عشر يدخل أشاوس الجيش العربي السوري سجن حلب المركزي المحاصر ويتم تحرير المحاصرين فيه و«بنيان» يلوح بيديه بإشارة النصر وتفرح الوالدة لأنها بالنصر موعودة وتتوالى الصور الواحدة تلو الأخرى وتختم كتابها قائلة: عذراً منك يا بنيان.. عذراً منك أنت لا تحب الكلام ولا تحب التحدث عن نفسك ولا عن أفعالك… عذراً من عينيك المغمضتين بصمت رهيب… بقوة من الرحمن عز وجل… وبصبر أيوب الذي وهبه الله لك لترعب اليد التي امتدت إليك وهي ترتجف من عظمة إيمانك وصبرك… وتختم: باسم أمهات كل الشهداء في ربوع الوطن الغالي، اللواتي حبسن دموعهن ليسقين شجرة الحياة القادمة التي امتدت جذورها في عمق الأرض وعانقت أغصانها عنان السماء لتتفيأ فيها أجيالنا القادمة… كتبت…. أمام هذه الكلمات وأمام كل الأمهات تنحني القامات إجلالاً واحتراماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن