قضايا وآراء

«ورأسك برج مدرعة يستدير بكل الجهات»

| عبد المنعم علي عيسى

عشية ذكرى النكبة الثالثة والسبعين، وهي تحل يوم 14 أيار وليس في الخامس عشر منه كما هو معروف حيث أعلن ديفيد بن غوريون عن قيام دولة الاحتلال مساء الجمعة وإن كان قد اتُفق فيما بعد على أن يكون يوم السبت 15 أيار هو ذكرى الإعلان عن ذلك القيام، عشية هذه الذكرى تعيد انتفاضة «باب العمود» المباركة الألق لفلسطين، واضعة في الذات الجماعية للأمة القدس أولوية، ليس فوقها أولوية، ثم معيدة من جديد اللحمة إلى شرائح النسيج المجتمعي الفلسطيني الذي أصابه التهتك على وقع التباين الحاصل تجاه مسائل مصيرية والتي من أبرزها الموقف من أوسلو ثم ماهية الخيارات التي يجب سلوكها تجاه «صفقة القرن»، وإلى جانبيهما رزمة من المسائل التي تشكّل في كثير منها مفترقات لا بد من التبصر فيها قبيل تحديد الوجهة.
لعل أكثر ما يثير الغرابة أن الحدث الفلسطيني الذي يصح توصيفه حتى اليوم بأنه يمثّل اهتزازاً من الدرجة الخطرة تحت أقدام كيان الاحتلال لم يشهده هذا الأخير منذ أيام 6 و7 و8 تشرين الأول عام 1973، نقول: إن ما يثير الغرابة هو أن ذلك الحدث يأتي في ظل تموضعات متناقضة على ضفتين شديدتي التأثير فيه، ففي الوقت الذي تشهد فيه المنطقة العربية في مجملها زحفاً نحو التطبيع الذي تقوم ذريعته على «واقعية» يرى مسوقوها أن مقاومة المشروع الصهيوني باتت سياسة عبثية لن تفضي إلا إلى مزيد من الدمار بعدما تكّشف المدى الذي رُسخت إليه جذور ذلك الكيان الذي نجح في خلق تمددات من النوع الداعم لوجوده، في الوقت نفسه نشهد انزياحات مهمة على الضفة الدولية التي تمثّل هنا القارة الأوروبية عمقها الأهم، ولربما يمكن تلمّس ذلك بوضوح في تقرير كانت قد نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية يوم الـ7 من أيار الماضي بمناسبة مرور قرنين على صدورها، وقد عرضت فيه لأفدح الأخطاء التي ارتكبتها الصحيفة خلال مسيرتها في غضون تلك الفترة المديدة.
صحيفة «الغارديان» ليست صحيفة عادية، وهي استطاعت عبر النخب التي تداولت النشر على صفحاتها، والتي كان من بينها مفكرون ونخب ثقافية ذات طروحات مثيرة للجدل، إضافة لجنرالات خاضوا غمار حروب كبرى مثل الحربين العالميتين، وكذا أعضاء في مجلس العموم البريطاني، نقول استطاعت أن تلعب دوراً هو الأكبر مما لعبته أي صحيفة أخرى في العالم لجهة التأثير على المزاج العام السائد داخل البلاد، أي بريطانيا، بل وتعدى تأثيرها حدود هذي الأخيرة إلى دواخل دول أوروبية عديدة في وقت كانت فيه بريطانيا تمثل «مسباراً» يمكن من خلاله تحديد وجهة الرياح التي ستكون القارة على موعد لاحق معها، «الغارديان» هذه كانت قد اعتبرت في تقريرها آنف الذكر أن تغطيتها لوعد بلفور عند صدوره عام 1917 هو من بين أكبر الأخطاء التي ارتكبتها في غضون مسيرتها الصحفية، وفي معرض إبرازها لنظرتها الحالية للحدث الذي غيّر المنطقة، ولربما بدرجة ما العالم، قالت: إن «إسرائيل اليوم ليست هي البلد الذي تنبأت فيه صحيفة الغارديان، لقد أخطأت الصحيفة خطأً فادحاً»، والجدير ذكره هو أن غرف صناعة القرار الإسرائيلية لا تزال ترصد أدق ما يصدر عن لندن التي ارتبطت بها بصلة رحم لا تزال حاضرة في الأولى، ومن الممكن تلمّسها عند الكثير من المفاصل بالرغم من تغيير الحاضنة الذي اقتضته الضرورات عندما مدت تل أبيب وشائجها باتجاه واشنطن منذ عام 1964 فصاعداً لاعتبارات تتعلق بموازين القوى العالمية التي انقلبت رأساً على عقب منذ حرب السويس 1956.
بدورها عنونت اللموند الفرنسية يوم الأربعاء 12 أيار «عودة القضية التي يريد تجاهلها العالم أجمع».
بعد مرور شهر على انتفاضة القدس، ومرور أسبوع على اندلاع المواجهات مع قطاع غزة، من الممكن رسم صورة عما يجري في الأراضي المحتلة، وفيها يبرز الآتي:
– هذه الانتفاضة هي الحدث الأهم على امتداد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي انطلاقاً من معطيين اثنين، أولهما هو توحد الجغرافيا الفلسطينية في غزة والقدس والضفة الغربية مع أراضي الـ1948، وثانيهما الصورة الهشة التي تبدت عليها صورة الردع الإسرائيلي التي تبيّن أنها من الهشاشة بحيث استطاعت نسبة الـ10 بالمئة من الصواريخ التي لم تستطع القبة الحديدية إسقاطها، أن تكشف عن بنية هشة لم تستطع سنو الاحتلال الـ73 أن تنجح في خلق معادلة ناجحة ما بين الديموغرافية والجغرافيا، ظهر ذلك فيما عكسته الصحف الإسرائيلية التي كان أبرزها مقال للكاتب الصهيوني الشهير «آري شبيت» نشره في صحيفة هآرتس قبل أيام بعنوان «إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة»، وقال فيه: «إننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ»، وأضاف: «إذا كان الوضع كذلك فإنه لا طعم للعيش في هذي البلاد ويجب فعل ما اقترحه روغل ألفر قبل عامين، وهو توديع الأصدقاء ومغادرة البلاد، والانتقال إلى سان فرنسيسكو أو برلين أو باريس، ومن هناك يجب النظر بهدوء ومشاهدة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة»، قال ذلك قبل أن يختم بأن «القوة الوحيدة القادرة على إنقاذ إسرائيل من نفسها هي الإسرائيليون أنفسهم، وذلك بابتداع لغة سياسية جديدة تعترف بالواقع، وبأن الفلسطينيين متجذرون في هذه الأرض».
– سيكون للانتفاضة أثر بالغ في تكريس الأزمة السياسية التي تشهدها إسرائيل منذ عامين خيضت فيها أربعة انتخابات لم تكن كلها حاسمة وآخرها التي جرت آذار الماضي، والأزمة كانت قد دخلت منعرجاً جديداً في الخامس من أيار الجاري الذي سجّل انتهاء المهلة المعطاة لبنيامين نتياهو لتشكيل الحكومة ليذهب الرئيس الإسرائيلي روؤفين ريفلين إلى تكليف رئيس حزب «هناك مستقبل» يائير لابيد الذي حل في الانتخابات الأخيرة في المرتبة الثانية، والراجح هو أن لابيد لن ينجح في تشكيل حكومة تنال موافقة الكنيست خلال 28 يوماً ستكون عصيبة، وفي حينها سيكون الخيار هو الذهاب إلى انتخابات هي الخامسة خلال عامين، صحيح أن تلك الانتخابات قد تفضي من جديد إلى فوز لليمين المتطرف، الصاعد نجمه أصلاً منذ عقد على الأقل، على وقع انتفاضة القدس، إلا أن ذلك سيكون لفترة انتقالية يفترض أن تجري فيها انزياحات مجتمعية وثقافية وسياسية تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الحاصلة التي يصعب اليوم رسم الحدود التي ستصل إليها.
– تبدو الأمور ماضية، تبعاً لحجم التراكمات الحاصلة منذ العدوان الأخير على غزة عام 2014 والذي حمل الرقم «أربعة» في غضون خمس سنوات، نحو حرب شاملة تستدعي حرباً برية بالضرورة، لكنها ستكون مختلفة هذه المرة عن سابقاتها، فالكلمة الآن هي للشارع، لجيل الشباب الذي بات رأسه «برج مدرعة تستدير بكل الجهات» والتوصيف هنا مستمد من مظفر النواب الذي قاله في أوج الكفاح المسلح الفلسطيني ثمانينات القرن الماضي.
ما بعد هزيمة حزيران 1967 نشرت وسائل إعلام إسرائيلية صوراً لأحذية عسكرية منغرسة في رمال سيناء قالت: إنها لجنود مصريين تخلصوا منها تخفيفاً للأثقال وتسهيلاً للهرب، وبغض النظر عن صحة تلك الصور، إلا أنها كانت ذات وقع وتأثير كبيرين على ضفتي الصراع، إيجاباً على الضفة الإسرائيلية وسلباً على نظيرتها العربية، ظلّ ذلك التأثير لمدة طويلة ولربما بقيت مفاعيله لمدة طويلة حتى غاصت في ذات الأمة الجماعية.
لربما، نستطيع القول اليوم إن الصورة التي جرى تناقلها مؤخراً والتي كانت لطفلين لم يتجاوزا العامين من عمرهما وهما يصعدان زحفاً على الدرج المؤدي لباب العمود، نقول لربما كانت تلك الصورة كافية لمسح ما غاص في الذات لتحل محله صورة أخرى من شأنها أن تعزّز الثقة بالنفس والإيمان بمستقبل آخر قادم طال الوقت أم قصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن