مع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، بدأت بعض الدول بالهرولة لتشكيل تفاهمات ومقاربات، في مقدمها تركيا أردوغان السباقة في سياسة الهرولة للمصالحات والقفز فوق حبال السيرك السياسي.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعلى مدار 16 عاماً أصبح سلطان تركيا الأوحد منذ أن وصل إلى السلطة في عام 2003، وقال إنه سيلغي الحدود المصطنعة ويهدم الجدران بين تركيا وشعوب الشرق الأوسط، ويدعم الإخوان المسلمين المصريين، واعتبر فوز محمد مرسي بالرئاسة انتصاراً، وأعقبها بتصريح لدعم الإرهابيين في سورية في 9 أيلول 2012 وقال: «سنقرأ الفاتحة على قبر صلاح الدين ونصلّي في الجامع الأموي ونجول في محطة سكة حديد الحجاز»، ووصفه منتقدوه يومها بأنه «ذئب في جلد شاة».
أردوغان، يمتهن مهنة القفز فوق الحبال أكثر من مهنة السياسة، ولقب البهلوان السياسي أقرب إلى شخصيته، فهو رجل متأرجح بين موسكو وواشنطن وبروكسل، وتل أبيب ومصر ودول الخليج، يحتل أراضي سورية، ويرسل مرتزقته إلى ليبيا، ويصادق الكيان الصهيوني.
بعد نجاح بايدن، أثيرت تساؤلات حول دوافع استدارات أردوغان الاستعراضية باللعب على الخلافات التي أحدثها في الشرق الأوسط، بعد «الربيع العربي» والتخلي عن نظرية «صفر مشكلات مع دول الجوار»، إلى «صفر علاقات» عبر التدخل في شؤون دول المنطقة والتوسع العثماني بالتموضع عسكرياً في سورية وليبيا وشمال العراق، ما أدى إلى شبه عزلة لتركيا. وتغيير مستمر لتحالفاته الخارجية ليعود يلملم أوراقه المبعثرة إقليمياً ودولياً ويدعو خلال تشرين الثاني الفائت إلى فتح أبواب المصالحة مع دول المنطقة، قائلاً: «ندعو الجميع للعمل معاً من أجل بناء مرحلة جديدة».
ثمة أسباب كثيرة لهذا التحول، أولها وصول بايدن إلى السلطة واعتماده سياسةً متشددة تجاه أردوغان، وكذلك الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تركيا منذ العام 2018، ويسعى أردوغان إلى إنقاذ شعبيته التي اهتزت، قبل موعد الانتخابات الرئاسية في 2023.
أوصلت سياسات أردوغان تركيا، إلى حالة مزرية، انهارت عملتها، وانحسرت حركة التجارة وتفاقمت أزمة الخبز، الدستور التركي لا يسمح ببقاء الرئيس في منصبه لأكثر من دورتين لذا يحلم أردوغان بتبديل الدستور التركي للفوز بفترة رئاسية ثالثة، زاعماً بأنه يريد وضع أول دستور مدني والمعارضة تُشكك في دوافعه، قال زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، وهو أبرز حزب معارض: إن حكومة لا تحترم الدستور المعتمد، لا يمكنها صياغة نص أكثر ديمقراطية.
اختار أردوغان البدء من مصر، التي تدهورت العلاقات معها بعد الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين» عام 2013، وتم استبعاد تركيا من معادلة الطاقة، برفض ضمّها إلى «منتدى شرق المتوسط للغاز»، توجد ثلاثة ملفات رئيسة مع مصر: ملفّ «الإخوان المسلمين»، ووقف التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وسحب تركيا لقواتها من ليبيا وسورية والعراق.
إن الوجود العسكري التركي في ليبيا يهدد الأمن القومي المصري، مع وجود 18 ألف مرتزق لتركيا، معظمهم سوريون، وقد زار وفد دبلوماسي تركي، العاصمة المصرية، في أول زيارة منذ 8 سنوات، هدفها تطبيع العلاقات مع مصر، والقاهرة اعتبرتها «محادثات استكشافية».
مراقبون يؤكدون أن إعادة بناء الثقة بين القاهرة وأنقرة ستكون صعبةً، وقال وزير الخارجية المصري «لا تواصل خارج الإطار الدبلوماسي الطبيعي».
في كانون الأول الماضي، قال أردوغان: «نود أن نصل بعلاقاتنا مع إسرائيل إلى نقطة أفضل».
علماً أن تركيا كانت ذات يوم الدولة الإسلامية الوحيدة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل. وتبدو جاذبية العلاقة مع تركيا تتناقص بعد تطبيع إسرائيل علاقاتها مع دول في المنطقة العربية.
أردوغان مأزوم في مواجهة إدارة بايدن الديمقراطية، هناك برود في العلاقة مع واشنطن توج بإعلان واشنطن اعتبار مذابح الأرمن في تركيا إبادة جماعية، يبقى موضوع الصواريخ إس 400 الروسية محط خلاف رئيس مع واشنطن.
بعد القمة الأوروبية في كانون الأول الماضي، حاول أردوغان فتح صفحة جديدة مع أوروبا، قائلاً «أوروبا هي مستقبل تركيا». لكن بروكسل طالبته بـ«أفعال على الأرض»، وقررت القمة الأوروبية في 25 آذار الماضي «مراقبة سلوك تركيا والتزامها»، وتقييم الوضع مجدداً خلال القمة المقررة في حزيران المقبل.
إضافة إلى القضايا الخلافية العادية مع أوروبا توجد خلافات مستجدة كالانسحاب من «اتفاقية مجلس أوروبا لحماية المرأة ومناهضة العنف المنزلي».
يجد أردوغان نفسه في أزمة مع كل القيادات الأوروبية، وهو لا يزال يهدد أوروبا بفتح بوابات بلاده للمهاجرين غير الشرعيين للدخول إليها، وإتاحة الفرصة للإرهابيين لاختراق القارة الأوروبية.
في صيف 2018، بدأت التأثيرات السلبية للسياسة الاقتصادية الأردوغانية بأزمة خانقة مع اضطرابات في سعر العملة الوطنية، وارتفاع البطالة، وساهم ارتفاع الأسعار في انتشار الاستياء الشعبي الذي ترجم بنتائج الانتخابات البلدية، حيث خسر أردوغان أهم المدن الكبيرة في البلاد.
وقدم قرابة مليون عضو من حزب أردوغان، استقالتهم من الحزب، كما بدأ رفاق دربه السابقون المنشقون بتأسيس أحزاب سياسية مستقلة.
أردوغان يحتل أراضي شمال سورية وينشر ويحمي مرتزقته الإرهابيين فيها ويحاول وضع يده على منطقة شمالي العراق، ويبرر حربه على المقاتلين الكرد إضافة إلى التحكم بمياه نهري دجلة والفرات، ما أدى لجفاف الكثير من الأراضي والإضرار بالزراعة.
بعض المراقبين يرون أن التقارب بين تركيا ومصر والسعودية، وبينها وبين الكيان الصهيوني، يجعل تركيا حلقة مواجهة لمحور المقاومة. في حال إحياء الاتفاق النووي الإيراني، سيكون لتركيا دور رمادي باللعب على التوازنات.
يرى محللون أن كل هذه المشكلات المتفاقمة، وأزمة وباء كورونا، ترسم صورة للتحديات التي تتزاحم على أردوغان، وترغمه على إعادة حساباته.
يرى محللون أن التحول في سياسة أردوغان الخارجية مناورة تكتيكية من دون المساس بالأهداف الإستراتيجية لسياسته العثمانية. أردوغان يُجيد القفز فوق حبال السيرك السياسي ويدير عجلة الزمن إلى الوراء، بعدما أضاع سنوات عديدة ويحلم بالعودة إلى عصر عثماني جديد إذا فاز بانتخابات 2023. ولكن قبل بلوغ الهدف، يبدو عرشه بدأ يهتز، وحلمه يتلاشي.