بغداد حاضرة الأدب والشعر والسياسة … اعطت للأدباء مكانة ومنبراً فخلدوها
| د. رحيم هادي الشمخي
قد يضاهي ويتفوق ما قيل في بغداد من شعر ما قيل في غيرها من المدن، فديوان الشعر في بغداد لا تسعه مجلدات، فقد سجل الشعراء بقصائدهم جوانب كثيرة مما ألمَّ ببغداد من حوادث وكروب، مثلما سجلوا مفاخرها ومحاسنها، وهكذا الأيام تضحك حيناً وتبكي في حين آخر، وما أصدق ما قاله أحد الكتاب الذين أرخوا للشعر في بغداد وهو الشاعر (الدكتور أحمد علي إبراهيم)، لكن الذي أدمع عيني وأحرق قلبي وأدماه هو ما تحمله تلك النصوص من ألم يظهر مصائب بغداد، والعجب العجاب من مفارقة أحوالها، فيوماً تجدها متوهجة تضاحك الدنيا، وفي آخر تبكي وقد أضناها الألم وأثخنتها الجراح التي شوهت معالم جمالها، فيبكيها كل ما فيها من أناس وأرض وأحجار وجبال حتى الماء، ثم تعود بفضل اللـه ورجالاتها، لكن الأقدار وما تكالبت عليها من أهوال يرافقانها، فتعود تعاني وتشكو الألم (حالها هو حال المدن العظام التي تغارها المدن)، وما قيل فيها ما قاله ابن زريق البغدادي:
استودع اللـه في بغداد لي قمراً
بالكرخ في فلك الأزرار مطلعه
أما الشيخ عمر الفارض فقد قال:
أرجو النسيم سرى من الزوراء سحراً فأحيا ميت الأحياء
وفي حق بغداد يقول القاضي التنوخي:
أحسن بدجلة والدجى منصوبُ
والبدر في أفق السماءِ مغربُ
فكأنها فيه بساط أرزٍ
وكأنه بها طراز مذهبُ
وأنشد القاضي أبو محمد البغدادي لبغداد:
سلام على بغداد في كل موطن
وحق لها سني السلام المضاعف
أما الشاعر (قمر اشبيلية) فقد قال:
آه على بغداد وعراقها
وظبائها والسحر في أحداقها
ومحالها عند الفرات بأوجهٍ
تبدو أهلتها على أطواقها
وقال في وصف بغداد لما حلت فيها الطامة الكبرى بدخول المغول إليها:
بكيت على بغداد لما
فقدت نضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرور
ومن سعة تبادلنا بضيقِ
وقوم أحرقوا بالنار قسراً
ونائحة تنوح على غريقِ
ينادني الشفيق ولا شفيق
وقد فقد الشفيق من الشفيقِ
أما أبو سعد محمد بن خلف الهمداني فقد قال:
فدى لك يا بغداد كل مدينةٍ
من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد سرت في شرق البلاد وغربها
وطوقت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً
ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلاً
وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكم قائل: لو كان ودك صافياً
لبغداد لم ترحل وكان جوابيا
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم
وترمي النوى بالمقترين المراميا
وقال الشاعر إسحق الموصلي عن بغداد:
ابكي على بغداد وهي قريبة
فكيف إذا ما ازددت منها غداً بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلبي
لو أنا وجدنا عن فراقِ بها بدا
إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت
من الشوق، أو كادت تموت بها وجدا
وقال (أبو العلاء المعري) في وداع بغداد:
أودعكم يا أهل بغداد والحشا
على زفراتٍ ما ينيبن من اللذع
فبئس البديلُ الشامُ منكم وأهله
على أنهم قومي وبينهم ربعي
وقال المعري أيضاً:
كلفنا بالعراق ونحن شرخٌ
فلم نلمم به إلا كهولا
وردنا ماء دجلة خير ماءٍ
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
ومن الشعراء المعاصرين (نزار قباني) قال في بغداد:
مدي بساطك واملئي أكوابي
وانس العتاب فقد نسيت عتابي
عيناك يا بغداد منذ طفولتي
شمسان نائمتان في أهدابي
لا تنكري وجهي فأنت حبيبتي
وورود مائدتي وكأس شرابي
ورميت رأسي فوق صدر أميرتي
وتلاقت الشفتان بعد غياب
أنا ذلك البحار ينفق عمره
في البحث عن حبٍ وأحباب
أما الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين فقد قال في قصيدة له في مهرجان المربد:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر
إلا ذوت ووريق عمرك أخضر
مرت بك الدنيا وصبحك شمس
ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
بغداد بالسحر المندى بالشذا الـ
فواح من حلل النسائم يقطر
وللشاعر (علي الجارم) قصيدة رائعة عن بغداد وجمالها:
بغداد يا بلد الرشيد
ومنارة المجد التليد
يا بسمة لما تزل
زهراء في ثغر الخلود
يا سطر مجد للعروبة
به خُط في لوح الوجود
بغداد أين البحتري
وأين أين ابن الوليد
ومجالس الشعراء في
بيت ابن يحيى والرشيد
أما بعد فالحديث عن الشعر والشعراء في بغداد طويل فها هي دار الحكمة والمدرسة المستنصرية ومجالس الرشيد والمرابد الشعرية التي تقام في كل أنحاء العراق شاهدة على عظمة بغداد، في العصر العباسي والعصور الأخرى.