حين اخترع قادة بريطانيا الاستعمارية فكرة الصهيونية في أواسط القرن الثامن عشر وحشدوا يهوداً من أوروبا لاستيطان فلسطين وتحويلها إلى قاعدة عسكرية تخدم المصالح البريطانية الاستعمارية الإقليمية والدولية، لم يخطر بعقول هؤلاء القادة أن هذا الكيان لن تتوافر له فرص البقاء في النهاية، لأنهم اعتقدوا أن الشعوب العربية ستتآلف معه بالقوة والإكراه والحصار وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وسوف ينسى الشعب الفلسطيني تاريخه ووطنه لأن دولاً وممالك عربية تابعة لبريطانيا وحلفائها الفرنسيين في ذلك الوقت ستوطن اللاجئين الفلسطينيين بعد إبعادهم وترحيلهم من قراهم وممتلكاتهم في بلدانها وتفرض عليهم هويتها الوطنية والسياسية وبخاصة في المملكة الأردنية التي جرى إنشاؤها لهذه الغاية كإمارة ثم أصبحت مملكة تضم معظم الفلسطينيين في أراضيها وضمت إلى سيادتها الوطنية كل الفلسطينيين في الضفة الغربية والضفة الشرقية على حدود نهر الأردن وكان هدف بريطانيا من هذه الطريقة أن تنتهي المطالبة باستعادة فلسطين وعودة شعبها إليها.
وظن هؤلاء القادة البريطانيون والصهيونيون أن هذا الكيان الإسرائيلي لن يكون قابلاً للهزيمة وسوف يسيطر من أجلهم على المنطقة، وها هي بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا الآن، وهي الدول التي وظفت إسرائيل في المنطقة منذ عام 1948، تجد أن أكثر من مليونين من اليهود الذين أحضرتهم هذه الدول منذ عقود كثيرة لتشكيل قوة بشرية مسلحة، قد فروا من فلسطين المحتلة وفضّلوا استعادة مواطنتهم في أوطانهم التي جاؤوا منها، وهذا ما يشكل دليلاً على بداية تآكل وتفتت المشروع الصهيوني، فبريطانيا تجد الآن أن عدد الفلسطينيين الذين يقيمون فوق ما بقي من أراضيهم في الضفة الغربية وأراضي فلسطين المحتلة منذ عام 1948 وبقية الفلسطينيين في قطاع غزة أصبح سبعة ملايين، على حين لا يزيد عدد اليهود في فلسطين المحتلة عن ستة ملايين ونصف المليون يحمل ثلثهم جنسيات أوطانهم الأوروبية والكندية والأميركية والروسية ليصبحوا جاهزين لمغادرة هذا الكيان حين ينعدم أملهم بالأمن، وهذا ما تجسده الآن الانتفاضة الفلسطينية الممتدة في كل أرجاء فلسطين والدعم الصاروخي الذي اصطف إلى جانبها من قطاع غزة بعد أن تبين للمستوطنين بموجب «هاشتاغ» نشره عدد منهم في وسائل التواصل الاجتماعي بأن «اليهودي الآمن هو اليهودي الذي يعيش خارج إسرائيل»، وقد ظهر هذا المضمون في تعقيبات كثيرة على التصريحات الرسمية التي تنشرها وسائل الأنباء الإلكترونية العبرية في إسرائيل والخارج، وأكد هذا المضمون نفسه بقوة طوال الأيام التي كانت تتساقط فيها صواريخ المقاومة الفلسطينية على كل أرجاء فلسطين المحتلة والمدن الإسرائيلية الكبرى، وهذا ما دفع عدداً من المستوطنين في جنوب فلسطين إلى مغادرة مستوطناتهم بسبب قربها من حدود قطاع غزة وتساقط القذائف عليهم.
لقد ازداد هلع الإسرائيليين حين وجدوا أن كل الملايين السبعة من الفلسطينيين يحاصرونهم بعد أن سارع الفلسطينيون الذين يقيمون في مدن مثل اللد ويافا وعكا إلى الاصطفاف مع انتفاضة إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة وعجزت قوات الشرطة الإسرائيلية عن إيقافهم إلى حد جعل بعض المعقبين الإسرائيليين يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي: إن «حرب عام 1948 لم تتوقف وها هم الفلسطينيون في كل مكان يطاردون اليهود».
وبسبب هذه الانتفاضة الشاملة وغير المسبوقة، أجبر الجنرال الإسرائيلي المتقاعد غيرشون هاكوهين على مطالبة الجيش بتسليح كل اليهود المقيمين في المدن لحماية المشروع الصهيوني من السقوط أو التفتيت، في تحليل نشره قبل أيام وحمل عنوان «حرب عام 1948 لم تنته بعد» ولهذه الأسباب يتجنب رئيس الوزراء المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو الإعلان عن أنه طلب من الرئيس الأميركي جو بايدين التوسط من أجل حصوله على فرصة يلتقط فيها أنفاسه قبل أن يزداد تدهور الوضع الإسرائيلي، وعلق أحد الإسرائيليين على هذا الطلب بتهكم حين قال: لعل نتنياهو يريد من بايدين إرسال المارينز إلى إسرائيل لحماية الإسرائيليين وتبديد هلعهم من الفلسطينيين.
يبدو أن خوف الإسرائيليين بدأ يزداد أكثر بسبب شعورهم بأن كل الشعوب العربية تحاصرهم بالكراهية والعداء حتى من الدول التي وقّعت معهم على اتفاقات تسويات، فالشعب المصري يقاطعهم حتى بعد 41 سنة من اتفاقية كامب ديفيد، وكذلك الشعب الأردني والشعب الفلسطيني، وهذا ما دفع نسبة كبيرة من الإسرائيليين إلى اليأس من وجودهم بين شعوب مجاورة تعاديهم، وشعب فلسطيني في قلب وطنه يقاومهم بكل الوسائل والأشكال من دون أن يتمكنوا من التغلب عليه طوال 28 سنة من اتفاقية أوسلو التي وقعتها القيادة المتنفذة في منظمة التحرير واعترفت فيها بأن 78 بالمئة من فلسطين لهم على حين لم يعترف الشعب الفلسطيني البتة بهذا التنازل ويجسد ذلك بالمقاومة على أرض فلسطين نفسها وهذا ما يثير الشكوك بمدى إمكانية أن تحافظ بريطانيا على صنيعتها الصهيونية في فلسطين.