مما لا شك فيه أن السوريين ينتظرون من رئيس جمهوريتهم الكثير، ومن يرشح نفسه لحمل هذه المسؤولية الكبرى يدرك بلا ريب حجم الأمل المعقود على مؤسسة رئاسة الجمهورية.
فبوصفه أساساً وقائداً في السلطة التنفيذية بالشراكة مع الحكومة، ومتمتعاً بصلاحية التشريع بالشراكة مع السلطة التشريعية، ولكونه يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها كما تنص مواد الدستور، يُعتبر رئيس الجمهورية في النظام الدستوري «شبه الرئاسي» semi – presidential system المعتمد في الدستور السوري موقعاً أساساً في إدارة الدولة.
إن النظام الدستوري «شبه الرئاسي»، والمتبع في دول عديدة، منها فرنسا وروسيا ومصر كما في سورية، يقوم على أساس انتخاب رئيس الجمهورية مباشرةً من الشعب، وليس عن طريق البرلمان أو عن طريق مجمع انتخابي، والهدف من ذلك أن يتم أفضل تحقيق لمبدأ «سيادة الشعب» عبر تجاوز العقبات التي تعترض طريقه من تنافس حزبي وألاعيب سياسية، فتكون السلطة الأساس في الدولة معطاةً مباشرةً من الشعب في انتخابات مباشرة لا يمر فيها الانتقاء الشعبي عبر أي معابر أو وسطاء.
وبالرغم من أهمية الإدارة والحوكمة في المجتمعات، ومحورية دور الطبقة السياسية بشكل عام، فربما يكون من المؤكد اليوم، وضمن الظروف الحالية، أن حاجة البلاد إلى الدور الفاعل لأهلها لا تقل على الإطلاق عن حاجتها للدور الفعّال لأي موقع سياسي فيها، فالحرب بالمحصلة، رغم قسوتها وآلامها، أفادت السوريين بأنها قد علمتهم الكثير.
علمتنا الحرب أن قوة السياسة ليست بديلاً من قوة الاقتصاد، بل تُبنى به وعليه، وفي الاقتصاد علمتنا أن ريع الثروات النفطية والباطنية ليس دائماً أو مخلداً، وأن الازدهار الذي يحمله ريع هذه الثروات هو ازدهار وهمي، أو لنقل إنه مؤقت في أحسن الأحوال، لا تُبنى عليه إستراتيجيات طويلة الأمد، ولا يصلح أساساً لتنمية مستمرة، بل الأساس في الازدهار هو القيمة المضافة التي يأتي بها العمل.
علمتنا الحرب أن الويلَ محيق، فعلا وليس قولاً، بأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع، علمتنا أن الاكتفاء الذاتي الصناعي والزراعي هو السلسلة الإنتاجية بأكملها، وليس الإنتاج في مراحله الأخيرة وحسب، علمتنا أن قدرتنا الشرائية ومستوانا المعيشي رهن بما تقدمه اليد السورية العاملة من قيمة مضافة، وليس رهناً بأي شيء آخر، وعلمتنا أنه ما «حك جلدك مثل ظفرك»، وأنه إذا لم تبدأ بأن تقلع شوكك بيديك فلن تجد حتى من يساعدك في شفاء جراحك.
علمتنا الأزمة أن الغرب ليس فاعلاً للخير ولا جمعية خيرية، وهو إذا مدّ إليك يوماً جسور التشبيك الاقتصادي، أو مدّ لك يد المساعدة المادية بصورة قروض أو هبات، فإنما يريد في المقابل استلاب الإرادة والقرار الحر، وهو يريد قبل كل شيء تقويض الاقتصاد المنتج، لأن الإفقار، وما يتبعه من اعتماد وتبعية اقتصادية، هو المعبر المفضل للغرب نحو الإخضاع السياسي.
علمتنا الأزمة كذلك أن المال الآتي من دول قد تكون عربية شقيقة أو جارة قد يحمل معه الكثير من الإفساد الأخلاقي والقيمي، وفي الوقت ذاته، وللمفارقة، قد يصبح معبراً لتغلغل التطرف والإجرام السياسي والإضرار بالوحدة الوطنية.
إن ثقافة انتظار المساعدات الخارجية والسؤال عنها دخيلة على الشعب السوري، والتاريخ بذلك يشهد.. فالسوري مزارعاً كان أم صناعياً أم تاجراً معروف عنه أنه يستطيع أن يستخرج رزقه و«قرشه» من الحجر، ومعروف عنه بأن قدمه تجر معها الخير والازدهار الاقتصادي، فحيثما حلّ السوري في بلدان الاغتراب حلت معه حركة إنتاجية مزدهرة، وأرقام متعاظمة لحجم الأعمال.
إن الكسل والاتكالية، وانتظار الدعم من غيرنا، ولو كان صديقاً أو حليفاً، لم تكن يوماً معلماً من معالم الوجدان الشعبي السوري، ولم تكن يوماً مقبولةً في إطار الأخلاق المجتمعية الراسخة في الشخصية الحضارية السورية.
نهضت اليابان من الرماد النووي بالعمل، واستعادت ألمانيا ريادتها الصناعية والاقتصادية انطلاقاً من الحطام.. كل ذلك لم يكن بفضل المساعدات الخارجية ولا الثروات الباطنية بل بقيمة العمل، فلا كرامة للإنسان بلا عمل، ولا كرامة لأمة بلا عمل.
نعم نحن السوريين نستطيع.. نستطيع أن نُبعث من رمادنا بإذن الله، وبسرعةٍ لا يخامرني بها أي شك، فنحن السوريين حملة إرث طائر الفينيق الذي يولد من رماده مراراً وتكراراً من جديد، ونحن حملة إرث الأمويين الذين سادوا في المشرق والمغرب وحققوا النصر والازدهار.
يوماً ما قال هنري فورد: «سواء كنت تعتقد أنك تستطيع، أم كنت تعتقد أنك لا تستطيع، فسيتضح لاحقاً أنك محق»..
فالأمل هو مفتاح النجاح في العمل، ولكن في الوقت ذاته لنكن متأكدين تماماً أنه لن يكون هناك أمل بلا عمل.
إن مسؤولية النهوض بالبلاد مسؤولية جماعية لا تستثني منّا أحداً صغيراً كان أم كبيراً، فالازدهار الاقتصادي والتحسن المعيشي، وإدارة الندرة ومحدودية الموارد، واستعادة الدورة الإنتاجية وحيوية الاقتصاد، وإعادة البناء والإعمار، والتطوير الإداري ومحاربة الفساد، واستكمال التحرير وترسيخ الوحدة الوطنية، وتطوير الخدمات وأتمتة المعاملات والحكومة الإلكترونية.. جميعها مسؤوليات جماعية تقع على عاتق الشعب وحكومته وسلطته السياسية على حد سواء، والانتخابات الرئاسية الحالية، وتأسيساً على أهمية موقع رئيس الجمهورية، ستكون عتبةً مهمة وستكون معبراً نحو النهوض، ولكن إذا -وفقط إذا- كانت مقرونة بتكريس ثقافة العمل لدى الشعب كما لدى مؤسساته الدستورية والسياسية على حد سواء، فلا نهضة لسورية ولا أمل لها إلا بالعمل.