أديب من الطراز الفريد.. نقداً وفكراً وأدباً … طه حسين درس التاريخين اليوناني والروماني وتعلم اللاتينية
| سارة سلامة
«أضاميم من أدب طه حسين» يضعنا أمام إنجاز الأديب الكبير طه حسين، ويضيء على مختارات مهمة قدمها، مثل: «ألوان»، و«الأيام»، و«حديث الأربعاء»، من كتبه التي اتفق فيها البيان العذب العالي، والمضامين الأدبية والنقدية التي تعزز العقل، وتوقظ الروح.
هذا عدا تناغمها مع أهداف إطلاق الهيئة لسلسلة «ثمرات العقول» التي تسعى إلى الكشف عن جمال اللغة العربية وبيان أدبها الساحر، وما خطه أبناؤها من قيم الخير والحق والجمال، وما أثْروا به حقول المعرفة الثقافية والفكرية والعلمية، والإنسانية ككل.
حيث صدر حديثاً عن «الهيئة العامة السورية للكتاب» وضمن سلسلة «ثمرات العقول» كتاب للأديب الدكتور ثائر زين الدين، حمل عنوان «أضاميم من أدب طه حسين». ويقع في 300 صفحة من القطع المتوسط، وكل صفحة منه حملت متعة خالصة ومعرفة وارفة، وخاصة أن المؤلف هو مدير عام الهيئة الأديب الشاعر والمترجم، والضليع في عوالم الثقافة.
تمهيد
ويقول زين الدين في مقدمة كتابه: «كنت طفلاً عندما سمعت للمرة الأولى اسم طه حسين، وقد ذكره معلمي في الصف الخامس ساخراً يومئذ مني، ما زلت أذكر ذلك الخجل، والشعور بالحرج اللذين انتاباني حينما رفع المعلم صوته قائلاً لزملائي: «هل سمعتم ما قاله طه حسين؟. فضحك الأولاد، وكل ذنبي أنني كنت أتحدث العربية الفصحى، وأحاول ألا أستعمل العامية في الدرس، ما استطعت ذلك، لكن الرجل مضى يضحك بصورة غريبة، ولاسيما حين استعملت مفردتي: «الحذاء»، عوضاً عن «السباط»، هل تفاصحت يومئذ أكثر مما ينبغي لطفل في الحادية عشرة من عمره؟».
من كتاب ألوان
ويعتبر طه حسين من أوائل من قدّم للقارئ العربي وبصورة عميقة كتاباً مثل كافكا وفاليري وكامو سارتر، وأعاد النظر في رموز ثقافية عربية، ما دفع زين الدين لتناول بعض من أعماله في المختارات كما في كتاب «ألوان» الذي يقوم الكاتب -كما فعل في بعض أعماله الأخرى- بمناقشه وتحليل مجموعة من الكتب التي نالت إعجابه ولفتت نظره متنوعة بين الأدب الفرنسي والعربي والأميركي، وشمل مجموعة من آرائه الفكرية والنقدية وبالجرأة المعتادة التي يتسم بها طه حسين، حيث يتطرق في كتابه لشخص بول فاليري وهو شاعر فرنسي وكاتب مقالات وفيلسوف، قائلاً عنه: «يسميه الفرنسيون شاعر العقل، ونستطيع أن نسميه عقل الشعر، فهذان الوصفان يصورانه أصدق تصوير، وكلا الوصفين يطابق صاحبه مطابقة دقيقة صادقة، والواقع أن حياة بول فاليري قد كانت سباقاً بينه وبين الأدب، يفر هو من الأدب ما وجد إلى الفرار سبيلاً، وقد يضطر هذان المتسابقان إلى أن يلتقيا، فإذا كان بينهما اللقاء بدأ بينهما حب عنيف ووصال شديد القسوة قوامه الصراع المتصل، ثم ينكشف هذا الجهاد عن أثر من الآثار لا يستطيع الإنسان أن يقول أي المصطرعين قد غلب صاحبه عليه، أهو الأدب الذي قهر بول فاليري، فأكرهه على أن يخرج للفرنسيين أروع ما عرفوا من الشعر وأبرع ما قرؤوا من النثر، أم هز بول فاليري الذي قهر الأدب واضطره إلى أن يذعن لسلطان العقل ويخضع لأصوله الدقيقة ومناهجه الصارمة».
صور من المرأة
لسبب أو لآخر لم تحظ قضية المرأة وموقعها في مشروع طه حسين التنويري بالقدر الكافي من البحث، على الرغم من أنها كانت من القضايا الجوهرية التي ناضل من أجلها عميد الأدب العربي. فقد كان حريصاً على أن تنال المرأة في مصر حريتها وحقها في التعليم وتقرير مصيرها، وجاء في أحد كتبه «صور من المرأة في قصص فولتير»: «موضوع غريب فيما ترى وفيما أرى أنا أيضا، ولكني دفعت إلى أن أتحدث إليك فيه، وقد تسألني.. لماذا اخترته من دون غيره من الموضوعات التي يمكن أن يساق فيها الحديث؟ فأجيبك في غير تكلف أو تردد بأني لا أفكر فيما يحب أو لا يحب، وفيما يلائمه أو لا يلائمه لأني لا أتملق القارئ ولا أترضاه ولا أبتغي إليه الوسيلة، وإنما أعطيه ما عندي وأتحدث إليه بما يخطر لي وأسير معه سيرتي مع ذوي خاصتي الذين ألقاهم مصبحاً وممسياً، والذين لا أسألهم فيما يريدون أن أتحدث إليهم ولا يسألونني فيما أريد أن يتحدثوا إلي، وإنما هي الحياة تجري بينهم وبيني سهلة سمحة يسيرة، تضطرنا إلى أن نحياها كما تضطرنا إلى أن نتبادل فيها الرأي وندير فيها الحديث.
وقد كان فولتير جزءاً من حياتي العقلية منذ شهر أيلول الماضي، كما كان ديديرو جزءاً من حياتي العقلية قبل الصيف، ولو أن مجلة الكاتب المصري ظهرت في حزيران أو تموز لتحدثت إلى قرائها عن ديديرو كما أتحدث إليهم الآن عن فولتير».
من كتاب الأيام
إن كتاب «الأيام» ليس مجرد سيرة ذاتية، وإنما هو تجربة تصلح لأن يستفيد منها الأجيال المتعاقبة، كما تصلح لدراسة أوضاع المجتمع المصري في القرن العشرين.
«في الحي اللاتيني»، يقول حسين: «وكان صاحبنا مقسّم النفس بين السعادة المشرقة والشقاء المظلم في أثناء سفره هذا الطويل منذ ترك القاهرة إلى أن بلغ باريس، كان سعيداً لأن الغمرة قد انجلت عنه، فاتصل من إقامته في فرنسا ما انقطع، وأذن اللـه له في أن يتم ما بدأ من الدرس، ويحاول تحقيق ما كان يداعب من الآمال، ويسمع من جديد ذلك الصوت العذب يقرأ عليه روائع الأدب الفرنسي وأوليات التاريخ اليوناني الروماني، ويعينه على درس اللاتينية».
وليس هذا كله بالشيء القليل، وبعض هذا كان جديراً أن ينسيه كل ما لقي من جهد، وكل ما احتمل من عناء، ولكنه كان يحمل في نفسه ينبوعاً من ينابيع الشقاء لا سبيل إلى أن يغيض أو ينضب إلا يوم يغيض ينبوع حياته نفسها، وهو هذه الآفة التي امتحن بها في أول الصبا، شقي بها صبياً، وشقي بها في أول الشباب. وأتاحت له تجاربه بين حين وحين أن يتسلى عنها بل أتاحت له أن يقهرها ويقهر ما أثارت أمامه من المصاعب وأنشأت له من المشكلات، ولكنها كانت تأبى إلا أن تظهر له بين حين وحين أنها أقوى منه، وأمضى من عزمه، وأصعب مراساً من كل ما يفتق له ذكاؤه من حيلة».