قضايا وآراء

يموت الكبار ولا تموت الأوطان

| منذر عيد

عندما أطلق ديفيد بن غوريون مقولة الكبار يموتون والصغار ينسون، كان يعتقد أنه وبمرور جيل أو جيلين من الشعب الفلسطيني بعد النكبة، فانه لن يكون ثمة ذكر لشيء اسمه فلسطين أو قضية، وبأن حق الشعب الفلسطيني سيذهب أدراج النسيان، خاب ظن «بن غوريون»، وسقطت مع الزمن جميع الأوهام والشعارات التي أطلقها، وهاهم (الصغار) الجيل الثالث من بعد النكبة؛ يمزقون تلك المقولة؛ وينتفضون من جديد وكأن الأجداد (الكبار) يقاتلون في ساحات المواجهة مع العصابات الصهيونية (الهاجاناه، شتيرن، البالماح، وغيرها الكثير من العصابات الصهيونية)، ويثبتون حقيقة وهي وإن مات الكبار، فإن الأوطان لا تموت.
بعيداً عن الخوض في تفاصيل الانتفاضات التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد الكيان الصهيوني، فإن (انتفاضة رمضان) الحالية، تشكل منعطفا كبيراً وجديدا في معادلة المواجهة مع العدو، فبعد أن ظن القادة الصهاينة أن عرب الأراضي المحتلة عام 1948 قد باتوا «عرب إسرائيل»، جاءت مشاركتهم الواسعة في الانتفاضة الحالية في كل أراضي 48 لتؤكد أنهم عرب فلسطين، يشاركون إخوتهم في الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، وحدة الحال والدم، واستشهاد الشاب موسى حسونة ابن الـ28 عاما في مدينة اللد على يد مستوطن، وإصابة آخرين وهم يواجهون قطعان المستوطنين، وإنزالهم علم الكيان الصهيوني عن أحد الأعمدة ورفع العلم الفلسطيني عوضا عنه، إضافة إلى تظاهر الآلاف في كل من الرملة وحيفا والناصرة والجليل والنقب، ضد ممارسات العدو الصهيوني في القدس المحتلة وقطاع غزة، إنما هو استذكار لجرائم أحفاد ذاك المستوطن قبل 73 عاما، ودليل على عدم نسيان «صغار» عرب فلسطيني 48 قضية الكبار، بل إن تلك القضية باتت «جيناً» يورث من جيل إلى آخر، كما يورث لون العيون والبشرة.
حينما انتفض فلسطينيو 48 في تشرين الأول عام 2000 نصرة للقدس والأقصى، كان الصدام ومواجهة قوات شرطة الاحتلال، التي قتلت بالرصاص الحي 13 شاباً من فلسطينيي 48، هي السمة الأبرز في تلك الانتفاضة، لتتجاوز انتفاضتهم اليوم خطوط المواجهات مع شرطة الاحتلال، وليكونوا وجها لوجه مع عصابات «تدفيع الثمن» العنصرية، الأمر الذي حاول من خلاله رئيس الكيان الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، استغلال الوضع، لإظهار عرب 48 على أنهم «عرب إسرائيل» وليسوا عرب فلسطين، وليحذر من حرب أهلية في إسرائيل، وكأنها حرب بين طرفين متكافئين في الامكانات، وليغطي على جرائم قطعان المستوطنين، الذين ينفذون الإستراتيجية الصهيونية القائمة على طرد الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم، في كامل فلسطين المحتلة، وهو ما أكده المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، بأن زعماء الصهاينة وقادتهم العسكريين عقدوا اجتماعات دورية لمدة عام كامل، وبالتحديد من شهر آذار 1947 حتى آذار 1948 للتخطيط والاتفاق على كيفية القيام بعملية تطهير عرقي في فلسطين.
اذا ما تم الحديث عن الانتصارات التي حققتها المقاومة الفلسطينية، وما مني به الكيان الصهيوني من هزائم، فإن ثمة الكثير الكثير يمكن الحديث عنه، من إعادة وحدة الصف الفلسطيني على كامل تراب فلسطين المحتلة من نهرها إلى بحرها، إلى كسر هيبة التفوق الإسرائيلي وكسر جبروت قبته الحديدية، إلى انقلاب الصورة وكشف حقيقة الكيان أمام المطبعين من العرب، إلا أن الأهم والأبرز هو إظهار إخفاق الكيان الصهيوني في «أسرلة» المجتمع العربي في المناطق المحتلة عام 48، وفشل جميع محاولة دمجهم كمواطنين إسرائيليين، حيث ظهرت حالة الإرباك الأمني، والعجز الإسرائيلي عن معالجته والتعامل معه، ما دفع بقادة الكيان إلى الاستعانة بقطعان المستوطنين، وما يسمى حرس الحدود، بل إن قيام العدو الصهيوني بالاعتداء على القدس وقطاع غزة، وما تلاه من رد للمقاومة والشعب الفلسطيني، زاد الهوية الفلسطينية قوة ووحدة؛ من غزة إلى الضفة إلى أراضي 48، إلى مخيمات الشتات وظهر الفلسطينيون موحدين متماسكين في خندق واحد؛ أكثر من أي وقت مضى؛ وهو ما أربك وأزعج الكيان الصهيوني لإدراكه صعوبة تجاوز ذاك الخندق؛ ويقينه بعدم إمكانية السيطرة على شعب يقاتل بذاكرته؛ مهما مورس من قتل وجرائم بحقه.
هي الذاكرة ذاتها التي يحملها فلسطينيو 48؛ متجذرة في أذهان وعقول فلسطينيي الشتات؛ حيث فلسطين بكل تفاصيل مدنها وقراها؛ تشكل الملح المرافق لخبزهم اليومي؛ والقصص التي يغفو أطفالهم عليها؛ فلسطين ذاك الحق المعلق في أعناقهم من خلال مفاتيح منازلهم التي هجروها على عجل؛ بفعل الإرهاب الإسرائيلي؛ والمتوارثة من جيل إلى آخر ؛ إلى يوم التحرير المنشود.
لم تكن مقولة «بن غوريون» جملة في خطاب، بل إستراتيجية؛ عمل عليها قادة الكيان لاحقا، بهدف حذف فلسطين، بكل ما تحمله من موروث ثقافي واجتماعي وديني، وهوية من الخريطة العالمية، والوعي العربي، عبر أسرلة من بقي في أراضي 48، وتوطين الفلسطينيين في الخارج حيث يقيمون، وتهويد ما تبقى من أرض فلسطين، وإذابتها في الكل الإسرائيلي، غير أن تلك الإستراتيجية الوهم؛ التي روجت لها الماكينة الإعلامية الصهيونية؛ وسعت إلى تغييب الوعي العربي؛ وإظهار فلسطين كنتونات متباعدة فكريا (قطاع وضفة وعرب 48)؛ تبددت بكل تفاصيلها، مع كل انتفاضة كانت تشهدها فلسطين المحتلة ضد الاحتلال، وكان التأكيد في انتفاضة اليوم على أن فلسطين لن تكون إلا للفلسطينيين، (كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن