حين التقى الرئيس حافظ الأسد بالرئيس بيل كلينتون في جنيف في 26 آذار عام 2000، وضع كلينتون خريطة على الطاولة وأشار إلى أن الإسرائيليين مستعدّون لإعادة 85% من الجولان لسورية، والتعويض عن الـ 15% الباقية من الأرض الصخرية الجرداء بعيداً عن بحيرة طبرية.
ما إن وصل هذا العرض إلى مسامع الرئيس الأسد من خلال الترجمة حتى قال لي: «دعيهم يبعدوا هذه الخريطة من أمامي». انتهى الاجتماع، لا حلّ أبداً دون مياه طبرية، أنا كنت أضع رجليّ في تلك المياه، وهي حقّ للشعب السوري. وبعد أن انتهى الاجتماع العاصف بسرعة، ورفض الرئيس الأسد الدخول في أي نقاش حول العرض المقدّم، طلبت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت أن ترى الرئيس الأسد بمفردها، وأنّ هناك شيئاً مهماً تريد أن تقوله له. بدأت اللقاء بالقول: «سيادة الرئيس تعرفون مدى تقديرنا لكم، ولكنني أودّ أن أقول شيئاً هاماً أرجو أن تفكّروا به، قد نكون نحن آخر إدارة أميركية تعرض عليكم 85% من الجولان، وقد تكون هذه فرصتكم الأخيرة لتحقيق هذا الإنجاز المهمّ. ابتسم الرئيس الأسد ابتسامة العارف، وقال لها: «أنا لم أقل إنني سوف أتمكن من تحرير الجولان خلال حياتي، ولكنني ودون شكّ لن أقدّم صكّ تنازل عن ذرّة من تراب الجولان، وكلّي ثقة أن الأجيال السورية القادمة سوف تقوم بتحرير الجولان من الاحتلال.
منذ أن استلم السيد الرئيس بشار الأسد في عام 2000، ورؤساء الوزراء والقادة الغربيون ووزراء الخارجية يحاولون اختبار تمسّكه بالثوابت الوطنية والقومية وقضايا الأمة العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، وكانت الحرب الأميركية على العراق عام 2003، والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 فرصة للغرب للتعرّف على هوية قائد سورية الجديد وتوجّهاته الحقيقية، وما تخلّل ذلك من زيارة كولن باول وطلباته المعروفة، وزيارة مبعوث الرئيس الفرنسي وعودة الاثنين بخفّي حُنين. ولذلك حين بدأت الحروب الإرهابية على العرب والتي أسموها «الربيع العربي»، وأصبح واضحاً استهداف سورية وحشد كلّ الإمكانات السياسية والمخابراتية والإعلامية والعسكرية وتمويل وتسليح شذاذ الآفاق ليعيثوا دماراً وفساداً في هذا البلد، كان الرئيس بشار الأسد على قناعة بأن ما يرفعه بعض المغفّلين أو المتواطئين من شعارات لا علاقة لها بالهدف الأساسي لهذه الحرب على سورية والتي كانت حينذاك قد سجّلت نمواً وازدهاراً متصاعداً ولافتاً خلال الفترة من عام 2001 إلى عام 2011، وكان الرئيس مدركاً أنه مهما كانت الخطوات التي تتخذها الحكومة السورية للاستجابة للطلبات المزعومة فإن هذا لن يغيّر من مخطّطاتهم ونياتهم شيئاً.
ولذلك واجهت سورية منذ اليوم الأول حرباً إرهابية إعلامية مضلّلة شرسة كان هدفها دائماً قلب الحقائق رأساً على عقب وملء الصفحات بالأخبار المزيّفة الكاذبة التي تكيل التهم للحكومة السورية وتبرّئ الإرهابيين والمجرمين، وتصف الحرب الدائرة بأنها حرب أهلية، في حين كان الجيش العربي السوري والشعب السوري صفاً واحداً في مقاومة إرهاب شرس يستهدف تدمير مؤسسات الدولة والبنى التحتية في سورية وحضارتها وهويتها.
ومع ذلك، وبعد تحرير معظم الأراضي السورية من دنس الإرهاب وعجز الوكلاء الذين أوكلت إليهم هذه الحرب على سورية وشعبها، حضر الأصلاء وهم إسرائيل والولايات المتحدة ودول أوروبا الاستعمارية والعثماني الجديد واحتلّوا الأرض بعد أن أخفق إرهابيوهم في إنجاز المهمات الموكلة إليهم وضيّق الأميركيون والغرب الخناق الاقتصادي على الشعب السوري ومنعوا تواصله مع الدول العربية الجارة بقوّة السلاح، في وجه آخر من الحرب الإرهابية المتواصلة ولكن هذه المرة على الجبهة الاقتصادية لتجويع الشعب السوري وكسر عزيمته وثني إرادته، وهزيمته بعد أن انتصر في معركته العسكرية الصعبة والمهمة.
الدرس المستفاد مما تعرضت له سورية من إرهاب دولي مخطط ومدعوم من القوى الغربية، ومن تلاحم دول المقاومة وقواها في المنطقة في دعم الجهود لدحر الإرهاب في سورية والعراق، ومن تسليح قوى المقاومة بالسلاح الرادع للهمجية الصهيونية، ومن الهبّة الأخيرة المباركة للشعب الفلسطيني في كل أنحاء فلسطين التاريخية وفي المغتربات هو أولاً حسم الجدل القائم وخاصة في السنوات الأخيرة في معظم الدول العربية حول جدوى المقاومة أم جدوى التطبيع؛ أي إعلان الاستسلام للعدو والتخلّي عن الحقوق العربية، قد زاد من حدة هذا الجدل وتشويه مساره اندساس الطابور الخامس ومنطقه المتواطئ والانهزامي لدب اليأس في قلوب الناس وتثبيط الهمم بحجة أن المعركة غير متكافئة أو بذريعة أن الفلسطينيين قد وقّعوا في أوسلوا فلماذا تتحمل سورية عبء انعدام بصيرة قياداتهم على الأقل ورفضهم الالتزام في حينه بمقررات الوفود العربية أو بمنطق أننا نريد أن نعيش وإلى متى سنبقى نحارب ونتحمل.
وهذا ما حذا بالكثيرين للهجرة لأنهم لم يعودوا يتحملون تبدّل أوجه المعارك واستهدافها للبلد والشعب، وهؤلاء يتناسون مصير الشعب في ليبيا والعراق واليمن من تفكك ونهب استعماري منفلت لثرواتها.
لاشك أن المعركة غير متكافئة سواء بين سورية والأعداء الذين يستهدفونها أم بين الفلسطينيين العزّل والعدو الصهيوني المدجج بكل أنواع الأسلحة النووية والكيميائية والتفوق الجوي، ولكن ولاشك أيضاً أن الخيارات أصبحت واضحة؛ فخيار التطبيع أي الاستسلام للعدو والتنازل عن الحقوق والأرض لا يقود إلا إلى الذل والهوان والفقر والتمزق والارتهان الأبدي لمشيئة العدو الوجودي وخططه الخبيثة التي تستهدف تحويل شعوبنا إلى رعاع تابع يعمل في خدمة الأسياد الإمبرياليين وإفراغ المنطقة من العرب وجلب المزيد من اليهود وإقامة الإمبراطورية الصهيونية على أنقاض الوجود العربي.
ولقد عاصرنا كل الوعود التي تمّ تقديمها للدول التي طبّعت أو هادنت واستسلمت وماذا حلّ بهذه الوعود وما إذا كان الخصوم قد أوقفوا منطق التآمر والمحاولات المستمرة لإضعاف الدول العربية وارتهان حكوماتها لإرادتهم للعدو الذي لم يتخلَّ عن عدائه للأمة العربية ولا عن مخططاته التوسعية.
لقد ساهم صمود سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد الذي تميز بالصمود والثبات والصبر وإرادة الحرب على جميع الجبهات بإرادة وعزيمة لا تلين، وبشكل كبير في تهيئة الظروف لانتصار الهبّة الفلسطينية التي أسقطت كلّ الادعاءات التي روّج لها الأعداء منذ عقود، وأصبحت اليوم المرجعيات واضحة لكل من يريد أن يرى أو يقرأ: أولها هي مصلحة الوطن والشعب بعيداً عن الإملاءات والادعاءات القادمة من الأعداء المعروفين وأتباعهم والتي تستهدف دبّ الوهن في إرادتنا وهزيمتنا نفسياً قبل إلحاق الهزيمة بنا على الأرض. وثانيها هي أن كل مواطن مسؤول وكل شخص حارس لتراب أرضه وأمته ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يشعر أحد أن دوره غير مهم أو أنها مسؤولية الآخرين أو أنه مهما فعل فلا أحد يراه ولا أحد يقدّر ما يقوم به. وثالثها هي أن الوحدة بالفكر والعمل؛ فحين نكون متحدين متضامنين على قلب واحد فلا يمكن لأي قوة أن تقهرنا خاصة إذا ما تحلينا بالصبر والثبات.
لهذا كله فإن انطلاق السوريين إلى سفاراتهم في إحدى وأربعين دولة يوم 20 أيار ليمارسوا حقهم الدستوري في انتخاب رئيس البلاد، بعد عشر سنوات من حرب ضروس شنتها الدول الاستعمارية الكبرى والتي استهوت تضليل الآخرين، كان تعبيراً عن وعي وتماسك ووطنية قلّ نظيرها لأن البدائل التي يخطط الأعداء لها مريرة وقاسية، وما ارتكبوه في أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وفلسطين مازال ماثلاً أمام أعيننا. ولهذا السبب أيضاً فإن زحف السوريين إلى صناديق الاقتراع يوم 26 أيار سيكون صرخة في وجه كلّ من استهدف سورية وظن أنها لقمة سائغة للأعداء، ولطمة في وجه كل الذين تواطؤوا ضد شعبهم وباعوا وطنهم بدولارات ودراهم معدودة. وسيكون أيضاً شعلة أمل تضيء لأبنائنا وأحفادنا طريق المستقبل لأن سورية وقيادتها الحكيمة جديرة بثقتكم وأن وطناً ترويه دماء الشهداء الأبرار ليس على مدى عشر سنوات وحسب بل على مدى عشرة آلاف عام في وجه كل أنواع الغزاة والمعتدين والمتآمرين والخونة هو وطن يستحق أن يبقى شامخاً تحت الشمس ويستحق شعبنا الباسل الحرية والعزة والكرامة على مرّ العصور.