قضايا وآراء

نعم لأمين الجغرافيا والتاريخ

| عبد المنعم علي عيسى

يقول المفكر الفرنسي موريس دوفرجيه: «ليست الانتخابات في الظروف القاهرة التي تواجهها الدول فعلاً من أفعال السيادة فحسب، بل هي أيضاً قبل أي شيء فعل من أفعال البقاء».
ولشدّة ما ينطبق قول المفكر الفرنسي آنف الذكر على حالتنا السورية الراهنة، فالانتخابات الرئاسية التي ستشهدها البلاد هذا الأسبوع ليست فعلاً سيادياً كما هو حال الانتخابات التي تجري على امتداد هذا العالم فحسب، بل هي فعل يشير في دلالاته البعيدة إلى رسوخ الذات الجماعية السورية على أرضها، تلك الذات التي صدّرت للعالم معنى وكنه الاستقرار، وثبات عزيمة النهوض لدى أبنائها الذين كشفوا عن جذور حارت التقنيات المتوافرة في تحديد عمرها الزمني الذي يكاد يكون صنوا لعمر الشمس.
لا نجد بدّاً من القول: إن ما تعرضت له سورية هو زلزال لم تستطع مقاييس «ريختر» تحديد شدته، وإن هذا الزلزال كانت مكامنه تعود لمشاريع عمرها يقرب من عقود خمسة، وعلى وجه التحديد إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي عندما استطاع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إقناع الرئيس المصري السابق أنور السادات بتوقيع اتفاقية «سيناء 2» في 2 أيلول 1975، والمؤكد، وهذا ما يظهر عند التبصر في بنود الاتفاقية، هو أن تلك الاتفاقية كانت في عمقها تهدف إلى عزل سورية عن عمقها الإستراتيجي الذي تمثل تاريخياً بوادي النيل وبلاد الرافدين، وإذا ما كانت دمشق فاقدة لهذا العمق الأخير بفعل الخلافات التي كانت قائمة مع بغداد، فإن خسارة العمق المصري، وفق تقديرات كيسنجر، كانت ستجعل من سورية دولة ضعيفة مجاورة لإسرائيل، لكن الأسوأ هو أنه يمكن أن تعيدها إلى ساحة للصراعات الإقليمية تماماً كما كانت عليه قبل خريف عام 1970.
نجحت خطة كيسنجر في جذب قاهرة السادات إلى مسار «الخطوة خطوة»، لكن الحسابات التي كان من المقدر للضفة السورية أن تشهدها بفعل ذلك النجاح كانت قد خابت بالتأكيد، حيث سيكتب الباحث والمؤرخ الإسرائيلي موشيه ماعوز بعد سنوات على مشروع كيسنجر: «لقد تحولت سورية تحت قيادة حافظ الأسد من بلد ضعيف سريع العطب إلى دولة تبدو قوية ومستقرة، وإلى قوة إقليمية في الشرق الأوسط»، ولعل التفسير الأكثر قدرة على تبرير حالة النجاح سابقة الذكر مرده إلى أن السياسة السورية التي انتهجتها دمشق منذ عام 1970، والتي تعتبر السياسات الراهنة امتداداً لها، يراعي المتغيرات، كانت تتمثل في قدرتها على التفريق بين ممارسة الدور وممارسة الوظيفة، فالأولى، أي ممارسة الدور، هي فعلاً تعبير لأصحاب الأرض عن حقائق وجودهم ومصالحهم، أما الثانية، أي ممارسة الوظيفة، فهي تقوم على تكليف من الغير يكون معبراً عن حقائق أخرى لا علاقة لها بنظيرتها عند أصحاب الأرض.
من المؤكد أن الزلزال الحاصل منذ 18 آذار 2011 كانت أطره قد ارتسمت قبيل عقد من هذا التاريخ الأخير، ولربما يمكن تلمسها في اجتماع جنيف الأخير الحاصل بين الرئيس حافظ الأسد ونظيره الأميركي بيل كلينتون في جنيف 26 آذار من عام 2000، في ذلك الاجتماع عرض الأخير على الرئيس الراحل عودة الجولان إلى سورية مع احتفاظ إسرائيل بشريط عرضه لا يتجاوز الأمتار العشرة على امتداد بحيرة طبرية، وفي حينها رد الرئيس الأسد «إن الذي يسقيني فنجان القهوة سوف يطلق علي الرصاصة إذا تنازلت عن شبر من الجولان»، وبالرغم من أن الرد الأخير كان مدعاة للتقدير لدى من سمعوه، وهو ما عبّر عنه كلينتون فيما بعد، إلا أن سياسات الدول التي تقوم على براغماتية مفرطة لا تعرف النسيان وهي تختزن في ذاكرتها المواقف التي تبدي فيها القوى الصغرى مقاومة لمشاريعها، وبالتالي لمصالحها، حتى إذا حانت اللحظة لأن تدفع هذي الأخيرة الثمن استفاقت تلك الذاكرة مستحضرة ذلك العنفوان الذي يجب أن يكون كسره بين أولى الأولويات.
كان الصمود الأسطوري للرئيس بشار الأسد، الذي وصل ذروته بقراره البقاء في قلب النار لمواجهة التفتيت عندما كانت القذائف تتساقط على قصر تشرين عام 2013، قد حوّله من وريث لذلك الحمل الكبير الذي كان بانتظاره في ذلك الصيف الحار من عام 2000 إلى قائد كبير تلبسه روح سورية كلها، ومعه كانت الرهانات تشير إلى رجحان كفة الآمال على كفات فقدانه.
قد يقول مدقق حسابات متبصر: إن ثمن النصر في الحرب السورية كان باهظاً، وهو بالتأكيد قول يحمل من الواقعية ما يفرض أخذه بعين اعتبار واسعة الحدقة، لكن المؤكد أيضاً أن ذلك الثمن يبدو قليلاً إذا ما قيس بالمسار الذي كان يمكن له أن يجنّب البلاد كل هذا الدمار وهذي الحرب، والأخير كانت مآلاته متعددة وهي تتراوح بين أن تصبح سورية «كويكبا» يدور في الفلك الأميركي، وفي أفضل حالاتها أن تصبح «ولاية عثمانية» لم تنفك أنقرة أردوغان تبدي ميلاً نحو دفعها إلى ذلك المنزلق الذي لا قرار له، ولذا فقد كانت الحرب «فريضة»، وهي الأشد مما تعرضت له دولة بحجم وقدرات الدولة السورية، وفي أتونها كان الرئيس الأسد قد برز كقائد كبير يملك إرادة النصر والفعل، وكان لوحده يمثل نصف المعركة ونصف النصر.
على أعتاب الانتخابات الرئاسية التي ستشهدها البلاد يوم الأربعاء المقبل، والتي لربما كانت الحدث الأهم في مسار الأزمة السورية التي أتمت عقدها الأول قياساً إلى كونها تمثل «موسم القطاف» الذي طالت مدة زراعته، تتجه شرائح الغالبية من السوريين لتقول نعم لأمين الجغرافيا والتاريخ السوريين، فالرئيس الأسد اليوم، الذي يقف في قلب العاصفة، هو المؤتمن على الـ185 ألف كم مربع التي تمثل مساحة الوطن، وهو المؤتمن على الـ26 مليون من أبنائه الذين يمثلون ثروته الأهم التي ادخرها لحالك الأيام، والمؤكد اليوم هو أن الرئيس الأسد بات كل المعركة وبات كل النصر، وفي مقاييس التاريخ، لا تتحدد قيمة الأنظمة من خلال تطبيقها لـ«العدالة والمساواة» بالرغم من أهمية ذلك التطبيق، بل من خلال كونها قدّمت، أم لم تقدّم، منهجاً معرفياً قادراً على مساعدة مجتمعاتها، في مكان وزمان معينيين، لتحقيق مشروعها الحضاري، وإنجاز المهام الملقاة على عاتقها في صون وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها.
كخلاصة نقول: إنه مع ثبوت وجود جهات خارجية تتدخل في الشأن السوري بما يهدد وجود سورية نفسها، فإن ذلك وحده يجب أن يكون مدعاة للتمسك بقيادتنا السياسية، والتغاضي، مرحلياً، عن كل الأخطاء التي تعود إلى خلل في الجهاز الإداري، وإلى بيروقراطية باتت مزمنة في بنيان الدولة، على أمل أن تكون المهمة الأولى التي تلي الاستقرار الأمني هي الخروج من ذلك البنيان الذي أثقل كاهل النهوض السوري المأمول.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن