لم يكن الإعلان عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في المواجهات الدائرة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي منذ العاشر من أيار الجاري مساء الخميس 20 أيار، ذا بُعدٍ يتعلق باحتياجات أطراف الصراع، ولا هو بالأساس يحقق أهدافها، وإنما كان ناجما عن حالة احتياج إقليمية ودولية استطاعت فرض قناعاتها في لحظة من الصراع بدا أن عبورها، من دون التحزم بتهدئة، أياً تكن صيغتها، سيكون فعلاً من شأنه أن يزيد من كم الزيت على النار المتأججة على امتداد المنطقة.
بمعنى آخر كان اتفاق وقف إطلاق النار محاولة لمنع المواجهة الكبرى التي بدا أن الذهاب إليها سيكون ذا تكاليف عسكرية وسياسية سوف تتراكم على الضفة الإسرائيلية بالدرجة الأولى، والاتفاق أصلاً لم يكن مانعاً لاستمرار المناوشات التي استمرت بزخم ذي سقوف يحاول كل من طرفيها تثبيت مواقعه بانتظار حدوث متغيرات، الأمر الذي قاد نحو التهدئة المؤقتة.
ظهر الارتباك الإسرائيلي، أكثر ما ظهر، في البيان الغامض الذي أصدره الجيش الإسرائيلي فجر يوم الجمعة 14 أيار، والذي احتوى إيحاء ببدء عملية عسكرية ضد قطاع غزة، وعلى الرغم من أن ذلك البيان سرعان ما تبعه توضيح يقول بأن «لا وجود لجنود إسرائيليين داخل غزة »، إلا أن الفعل كان يعني الكثير، ومن بين ما يحمله في طياته إقرار بعدم القدرة على الحسم، وهذا العجز هو الذي قاد نحو ممارسة الخديعة كنوع من الحرب النفسية، وهو الاتهام الذي وجهته وكالة «أسوشيتيد برس» علناً إلى الجيش الإسرائيلي التي قالت إنه «يمارس الخديعة عبر وسائل الإعلام»، والمؤكد أن هذه السابقة ستكون ذات تداعيات داخل بنيان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي بدت صورتها كما لم تكن في المواجهات الأربع السابقة 2008 -2009 -2012- 2014، لكنها في مقلب آخر كانت تعتبر كاشفة لمعركة ذات طبيعة مختلفة، وهي في جزئها الأهم تدور على الشاشات والمواقع الإخبارية، حيث المنبر هنا سيحدد بدرجة كبيرة قدرة كل من طرفي الصراع على تسويق منطقه ومشروعية حربه التي يخوض، ومعهما شد عصب جبهته الداخلية لتحمل الخسائر وغض البصر عن مكامن الضعف التي تكشّفت حفاظاً على تماسك هذه الأخيرة.
وبهذا المعنى يمكن القول إن معارك غزة الأخيرة كانت بالدرجة الأولى تدور في ساحات الوعي على ضفتي الصراع، وكذا على ضفاف الوعي الدولي شديد التأثير بهذا الأخير، فالإسرائيليون كانوا يريدون إفهام جمهورهم أن حالة الالتحام القائمة مع الفلسطينيين هي التي تفسر عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الحسم، وأن العجز هنا لا يعود إلى تراجع في القدرات، وإنما إلى حالة هي أقرب لتشبيهها بـ«ارتهان المصائر» بعضها ببعض، أقله أمنياً، أما الفلسطينيون فكانت معركة الوعي لديهم قد تمظهرت في محاولة ربط الساحات الفلسطينية ببعضها البعض، والمقصود بالساحات هنا الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي الـ1948 التي استطاع الاحتلال إيجاد خلق حالة من التمايز فيما بينها، والمؤكد أن جزءاً كبيراً من ذلك الهدف قد تحقق، ولربما كان القبول الإسرائيلي بوقف لإطلاق النار بعد أربعة أيام من تأكيد قيادة الجيش على أن «المعركة لن تنتهي الآن»، ذلك القبول هو في أحد أوجهه كان تعبيراً عن خشية إسرائيلية من أن يؤدي طول أمد المواجهة إلى نجاحات أكبر في ربط الساحات، الأمر الذي يفرض تبلور حالة من الوعي من شأنها أن تعيد «فتق الجراح» التي كان الظن أنها اندملت.
على ساحة الوعي الإقليمي، يمكن القول إن حالة «الصوم» التي مارسها حزب الله، وكذا الفصائل الفلسطينية الموجودة في كل من سورية ولبنان، إنما كانت تعبيراً عن حالة من التنسيق القصوى بين الفصائل الفلسطينية في الداخل وبين الأطراف السابقة الذكر، حيث الرؤية هنا تقوم على أن الدعم الذي يمكن أن يقدمه هؤلاء سوف يكون ذا أثمان سياسية، من نوع أنه سيضعف من تعاطف العالم مع الشعب الفلسطيني، ولسوف يساعد على ترسيخ ما تحاول تل أبيب ترسيخه عندما تقول إنها محاطة بـ«أعداء» ما انفكوا يعملون في كل خطوة من خطواتهم على اجتثاثها من جذورها، ثم إن الرؤية، لربما، كانت تريد أن تقول إن طعم الانتصار، إذا ما كان فلسطينياً خالصاً، سيكون بطعم مختلف تماماً، وهو سيمثل رداً قاطعاً على ما تحاول إسرائيل تسويقه، ومعها بعض الجهات العربية، ومفاده أن الفلسطينيين «باعوا» أراضيهم أولاً ثم «باعوا» قضيتهم مؤخراً.
كشفت مفاوضات اللحظات الأخيرة التي سبقت التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، عن حالة لا يبدو أنها كانت محسوسة في السابق، بمعنى أن أكثر المتفائلين لم يستطع أن يتبنى طرحها على اعتبار أنها يمكن أن تكون أقرب إلى الأحلام منها إلى الواقع، فبعد رفض فصائل المقاومة للمطالب الإسرائيلية التي تركزت في البداية على: تجريد المقاومة من سلاحها – تدمير الأنفاق – سيطرة إسرائيل على مداخل غزة – تعهد فصائل المقاومة بعدم قصف المدن الإسرائيلية، بعد ذلك الرفض تكشّف القشر ليبان اللب، كما لم يتكشف أبداً على مدىالـ 73 عاماً المنصرمة، فقد طالب المفاوض الإسرائيلي أن تكون «الضربة الأخيرة» هي للجيش الإسرائيلي، فرد نظيره الفلسطيني إن المقاومة سترد على أي قصف بضربة أقوى منها.
في أدبيات التفاوض، الذي يعقب الحروب على وجه الخصوص، فإن استجداء أحد طرفي الصراع تلميع صورته، أو الطلب إلى خصمه تقديم جائزة ترضية من عيار هذا الطلب الأخير، لا يكون تعبيراً عن حالة من الوهن فحسب، بل يمثل أيضاً «لعباً بالنار» بالنسبة للقائم بالفعل نفسه، والمؤكد أنه سيكون لذلك الفعل تداعياته على الحالة المعنوية التي مثلت في السابق نصف العدة والعتاد في الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ قيامها.
القدس اليوم باتت أقرب من أي يوم مضى.