ثقافة وفن

أغان تراثية وطربية خالدة … مرتبطة بشخصيات أو بوقائع حقيقيّة

| سوسن صيداوي

تراث الشعوب… هو خلاصة نمطيّة لعاداتها وتقاليدها، وهو الممزوج بالوجدان المتراكم، وبالذائقة الفكرية لمجتمعاتها، كما ويمكننا القول: إن التراث الشعبي هو عنصر جامع لما تناقلته الأجيال للقصص والروايات المتواترة عبر الزمن، فشكّل بكل ما ذكرناه أعلاه تنوعاً يعتبر الأقرب للطابع الاجتماعي السائد في فترتها، لأنه الدال العميق على الهوية. واليوم من التراث نتوقف عند الموسيقا بالأغاني التراثيّة الشعبية والطربية التي جاءت من قصص حقيقية، أو ارتبطت بوقائع متعلقة بأشخاص أو أحداث سياسية أو تاريخية. وهذه الأغاني ما زلنا حتى اليوم نرددها ونسمعها سواء بنسختها الأصلية أم من خلال تحديثها من الجيل الشاب.

يا طيرة طيري

هل أحد بيننا لم يسمع أغنية «يا طيرة طيري يا حمامة»، أو يردد كلماتها: يا طيرة طيري يا حمامة، وانزلي بدمّر والهامة، هاتي لي من حبي علامة، ساعة وخاتم ألماس، يكفى عذابي حرام والله، أنا على ديني، جننتيني، على دين العشق حرام والله….».

هذه الأغنية قام بتأليفها أبو خليل القباني لشابة كانت تغني بفرقته واسمها «طيرة الحكيم»، وهي من دمشق واسمها الحقيقي «أستيرا حنائيل الحكيم»، هذه الشابة سافرت إلى شيكاغو عام 1893، وحظيت «طيرة» هناك بشهرة واسعة، وكتبت عنها الصحف متغزلة برقصها وتمثيلها عندما كانت تؤدي أغنية « يا طيرة طيري». وبحسب المؤرخين هناك أغان أخرى ألفها القباني لها، منها نذكر «ع الهيلا الهيلا يا ربعنا» المسجلة بصوتها في عام 1907. هذا وبحسب القصة يقول الباحثون بأن «طيرة» عمّت شهرتها حتى في أرجاء مصر حيث استقرت فيها بعد عودتها من شيكاغو، ويذكر المؤرخ العراقي عبد الكريم العلّاف أنها غنت في بغداد أيضاً وذاع صيتها في المدينة، كما أنها زارت البصرة وغنت أغنية «شمس الشموسة» في حفل على يخت أمير المحمرة الشيخ خزعل الكعبي.
بقي أن نذكر هنا بأن أغنية « يا طيرة طيري» غناها أيضاً كل من القدير صباح فخري والسيدة فيروز.

ع الروزنا

الأغنية الأخرى في موضوعنا اليوم، والتي لا أظن أحداً لا يعرفها هي أغنية « ع الروزنا»، وحولها ثلاث روايات. الأولى تقول إن الروزنا سفينة نقلت بقرار عثماني شحنة كبيرة من البضائع إلى لبنان وخاصة السلع الغذائية لتطرحها بأسعار زهيدة بقصد إغراق الأسواق اللبنانية، ما كان سيؤدي إلى كساد المنتجات وإفلاس التجار اللبنانيين؛ لكن تجار حلب هبّوا لنجدة إخوتهم اللبنانيين فاشتروا المنتجات اللبنانية بسعرها الحقيقي -وأهمها التفاح- وأنقذوا لبنان من كارثة اقتصادية حقيقية.

على حين الرواية الثانية تحكي بأن الوضع الغذائي في أوائل الحرب العالمية الأولى في الشام عموماً ولبنان خصوصاً، كان صعباً، حيث ضربت مجاعة بلاد الشام ابتداء من عام 1915، ولجأ العثمانيون إلى جمع المحاصيل الزراعية، وخاصة القمح لمصلحة الجيش في فترة الحرب، لإمكانية نقله لمسافات طويلة فيما تزامن هذا مع سحب الشباب للجيش، وقام تجار بيروت بشراء القمح من إيطاليا، لأنها كانت حتى ذلك الوقت واقفة على الحياد في معارك الحرب العالمية الأولى، ما يعني أن «الروزنا» كانت سفينة إيطالية، وكان من المفروض أن تحمل القمح إلى لبنان، فأبحرت الباخرة و«كل الهنا فيها» كما تقول الأغنية، لكنها لسبب غير معروف لم تسلم البضاعة (الله يجازيها)، والسبب المرجح هو لدخول إيطاليا الحرب إلى جانب الحلفاء في أيار 1915، ما حول الباخرة إلى باخرة للحلفاء وجعلها ملزمة بتنفيذ الحصار المفروض على الشواطئ الشامية ومُنعت من تسليم البضاعة.

على حين الرواية الثالثة تعود للكاتب والمؤرخ العراقي «سيار الجميل» الذي ينسب الأغنية إلى مدينة الموصل، مؤكداً أنه اكتشف في مخطوط ديوان الشاعر «عبد اللـه راقم أفندي» 1853- 1891م أن هذه الأغنية قد كتبها بنفسه في جلسة سمر، واتفق مع صديقه الموسيقار الضرير «الملا عثمان الموصلي» على تلحينها، وهي تحكي قصة عاشقين كانا يلتقيان خلسة وراء الروزنا، وأن العاشق رحل إلى حلب بعد أن افتقد حبيبته إثر إغلاق أهلها للروزنا التي يسميها الموصليون بـ«الغوزني»، حيث يوضح قائلاً: «إن الروزنا هي فتحة تُبنى في البيوت القديمة بالموصل، ويسميها البغداديون «الروزنا»، وهي ليست كما أشاع السوريون واللبنانيون اسم سفينة إيطالية، وقد تحقق المؤرخ «سيار الجميل» من ذلك أكثر في بحثه حول تاريخ البحرية الإيطالية، فوجد هناك سفينة اسمها «ريجينا» وليست «روزنا» بنيت منذ زمن طويل، ويقول: إن السفينة الإيطالية قد تحطمت عام 1872 في عاصفة قوية. مضيفاً إن هذه الأغنية مكتوبة باللهجة العامية الموصلية وقد جرت بعض التبديلات حيث نذكر بعضاً منها: «تغيرت كلمة «الرطب» العراقية إلى كلمة «العنب»، وتغير «وش عملت الروزنا» إلى «شو عملت»، وتحولت «قلبي» إلى «حبي»، وتبدلت «عا باب الجسر» إلى «عا راس الجبل».

بقي أن نذكر بأن الأغنية انتشرت في الشام ووصلت إلى مصر، وأقدم نسخة لها هي بصوت إيميلي الإسكندراني، كما غناها كل من صباح فخري وفيروز.

زوروني كل سنة مرة

بجولتنا لنذهب إلى مصر، ولنقف عند أغنية «زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرة حرام!»، والتي كتب كلماتها المؤلف المصري الشيخ محمد يونس القاضي.

يحكى أن القاضي مرّ به مرض شديد ألزمه الفراش، ما دفع أهله وجميع أصدقائه لزيارته، ولكن الذي لم يكن متوقعاً هو زيارة شقيقته له خلال مرضه، لأنه كان على خلاف معها وصل حد تقديم الشكاوى القضائية بسبب الميراث، وهو ما جعله يتساءل في الأغنية «أنا عملت إيه فيكم.. تشاكوني وأشاكيكم»؟ إلا أن هذه البادرة الطيبة من أخته كانت خاتمة للخصام، ما دفع كليهما لإسقاط القضايا المرفوعة. أما كلمات الأغنية فكتبها القاضي تعبيراً عن سعادته بالزيارة، مطالباً بتكرارها سنوياً.

يا رايح وين مسافر

هنا نذهب معكم إلى أقصى الغرب، إلى الجزائر الشقيق، حيث نالت أغنية « يا رايح وين مسافر» شهرة كبيرة وذاع صيتها في جميع الدول العربية، بعدما غناها المطرب الشعبي «دحمان الحراشي» الذي بفنه وأغانيه يحاول معالجة القضايا الاجتماعية المختلفة، ومنها هذه الأغنية التي وجهها إلى صديق له كان مصراً على الهجرة ظناً منه أن بلاد الغربة أفضل من بلده، في الوقت الذي شهدت فيه الجزائر حملة كبيرة من هجرة أبنائها إلى فرنسا، وتدعو كلماتها إلى العودة للوطن الأم وعدم الانبهار بالدول الأخرى، على اعتبار أن الحياة في الغربة مرّة ومليئة بالصعوبات النفسية والمادية، وهذا بالتحديد ما توضحه كلماتها التالية:

يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي.. شحال ندموا العباد الغافلين قبلك وقبلي… شحال شفت البلدان العامرين والبر الخالي.. شحال ضيعت وقت وشحال تصيد ما زال تخلي.

الأغنية قام بتجديدها المطرب الجزائري الراحل «رشيد طه» ضمن قالب موسيقي جديد عام 1993، لتقابل من الشباب العربي كافة بالرواج والانتشار الساحق حتى يومنا هذا.

يردلي يردلي سمرة قتلتيني

في محطتنا الأخيرة نحط في العراق الشقيق، ونقدم لكم الأغنية التراثية «يردلي» وهي من صميم الواقع وتدعو إلى الانفتاح على الآخر وتقبّله بجميع اختلافاته الدينية والطائفية، وهي من التراث الغنائي المشترك والممتد من ماردين إلى الموصل، تقول كلماتها: «يردلي يردلي سمرة قتلتيني، خافي من رب السما وحدي لا تخليني، أبوك يا أسمر حلو ماجا على ديني، أنت على دينكِ وأنا على ديني، صومي خمسينكِ وأصوم ثلاثيني…» ومنها نعرف أن قصتها تحكي عن شاب أحب فتاة على غير دينه، ودعاها إلى نسيان هذا الاختلاف بينهما والاتفاق على ما بينهما من حب.

وبقي أن نذكر لكم بأنه غير معروف من لحنها أو قام بتأليفها، ولكن من المتعارف أن هذه الأغنية وثّقت العلاقة التاريخية بين مدينتي الموصل وماردين، عندما دخلت الموصل في فضاء الحكم العثماني بعد مدينة حلب، وذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن