دلالات مرحلة الغد… الاعتماد على الذات يجب أن يكون حاملاً أساساً لجميع المشاريع … إعادة ترتيب الأولويات التنموية باتجاه رد الاعتبار لقطاعات الإنتاج وإعادة تحديد هوية الاقتصاد السوري
| هني الحمدان
تقف سورية على أعتاب مرحلة جديدة بعد أن شهدت نجاحاً كبيراً في الاستحقاق الدستوري الذي تمثل بانتخاب رئيس للجمهورية
وبعد هذا الاستحقاق المهم، فالمرحلة القادمة لها أولويات عمل، تتجلى بصور بدأت تتضح ملامح بعض أجزائها، إلا أن الأهم هو التركيز على الإنتاج وتنويع منتجاته ليسهم رافداً أساسياً في دعم التنمية، ولكن هناك تحديات جسيمة تواجه تحقيق التنمية المستدامة في سورية، وهذه التحديات متعددة من حيث مصادرها وطبيعتها، بين خارجي وداخلي، وهيكلي وطارئ، وبعضها أكثر أهمية من الأخرى من ناحية الأثر المباشر.
فهل الإمكانات الذاتية كافية وما مدى كفايتها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؟ مع تأكيد أهمية التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الأخرى التي تؤثر في مجمل المسارات التنموية، وقسم منها قد لا يكون نتيجة قصور بل تحديات أخرى خارجية ضاغطة.
حول ذلك يقول الأستاذ رفعت حجازي: إنه على امتداد سنوات تنوعت أساليب وأدوات الحرب الاقتصادية على سورية، من فرض القيود على التحويلات المالية الخارجية، إلى تجميد أموال شخصيات سورية في الخارج، إلى منع الكثير من الدول من التعامل التجاري مع سورية، مروراً بالحظر التكنولوجي، وحظر بيع النفط والغاز، وفرض العقوبات على الدول التي تتعامل اقتصادياً مع سورية، وقد استجابت الكثير من اقتصادات العالم لتلك المطالب التي هي أميركية في جوهرها، وهو ما أثر سلباً في أداء الاقتصاد السوري الداخلي وحرمه من الاندماج الطبيعي في منظومة الاقتصاد الدولي، وأخر بوضوح إحراز تقدم في تحقيق التنمية المستدامة، كما ألحقت تلك الإجراءات القسرية خسائر هائلة في بنية الاقتصاد السوري، وقدرات الدولة السورية والمجتمع الأهلي والقطاع الخاص الهادفة لتحقيق الأهداف التنموية.
لا تشكو سورية حسب حجازي من فقر في المواد الاقتصادية، فالتنوع الطبيعي والموقع الجغرافي هما فرصتان يجب الاستفادة منهما في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولنا من سنوات ما قبل الحرب الدروس الكافية لإعادة التوازن الهيكلي وإعادة ترتيب الأولويات التنموية باتجاه رد الهيبة والاعتبار لقطاعات الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة)، بدلاً من قطاعات الخدمات التي شكّلت مصادر النمو الرئيسة قبل الحرب.
وهناك سبب آخر حسب حجازي يتمحور حول أن جزءاً من اعتماد الموازنة العامة للدولة على الإيرادات النفطية جَعَلها في مأزق تمويلي كبير خلال سنوات الحرب التي خرجت معظم مكامن الإنتاج فيها عن السيطرة، وعَجِزَ النظامان المالي والنقدي عن تطوير بدائل غير تقليدية تشكل موارد مستدامة لتمويل التنمية.
كما لا يزال التوزع القطاعي للاستثمارات الخاصة مشوهاً وغير موجه ومضبوط، ويتجه بصورة أكبر نحو قطاعات العقارات التي شهدت نمواً كبيراً خلال سنوات الحرب على حساب قطاعي الصناعة والزراعة.
وإزاء كل تلك القضايا التي تشكل عاملاً يحد من تحقيق التنمية الشاملة المنشودة، هناك مؤشرات حول التجربة السورية تؤكد أن الرهان المستقبلي على بيئة دولية مواتية للتنمية الوطنية بأبعادها المالية والمادية وغير المادية هو رهان خاسر، فسورية تاريخياً من أقل الدول تلقّياً للمساعدات الدولية، فقد بلغت حصة الفرد الواحد من المساعدات كوسطي سنوي خلال العقد الأول من الألفية الثالثة نحو 11 دولاراً أميركياً، وهي الأقل بين الدول النامية، كما أنها من أقل الدول في مؤشرات الاستثمار الأجنبي المباشر، وتعيش منذ ثمانينيات الألفية الثانية في ظل حصار تنموي وتكنولوجي، وتواجه صادراتها ومستورداتها معوقات كثيرة للدخول إلى أسواق الدول المتقدمة، نظراً لقراراتها السياسية المبنية على مواقفها الثابتة تجاه عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
ومن هنا، فإن الاعتماد على الذات يجب أن يكون حاملاً أساساً لجميع المشاريع والتوجهات على اختلاف مضامينها وساحاتها، وهو من دون شك مرتبط بشكل وثيق بمتطلبات المرحلة المنشودة التي تسعى الدولة السورية لتثبيت ركائزها وبُناها بعد أن تمكنت من تجاوز المخاطر التي هددتها على مدى سنين، والتي خلّفت أعباءً ثقيلة على كاهل البلاد والعباد.
إن أكثر ما تحتاجه سورية اليوم هو المقاربة التفاؤلية والنظرة الاستشرافية لمستقبل أفضل، على الرغم من المشاكل البنيوية في الاقتصاد السوري، والعوامل المستجدة الضاغطة من الخارج ومن الداخل، ولاسيما في كل ما يتصل بالحرب؛ إلا أنه في الوقت عينه، لا بدّ أيضاً من التعرف على النقاط الإيجابية وعناصر القوة، واستشراف الاحتمالات المستقبلية التي هي أكثر إشراقاً بموضوعية، وبناء الخطط الوطنية على هذا الأساس.
وتحت شعار المرحلة المقبلة «الأمل بالعمل»، لا بد بالاعتماد على الذات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة:
يعكس هذا الشعار شمولية الرؤية تجاه المستقبل، فالأمل تقابله الرؤى والأهداف التي تمثل طموحات وتطلعات الشعب المستقبلية، والعمل يقابل التدخلات التي يجب تنفيذها لتحقيق الأهداف من سياسات وبرامج ومشاريع.
والأمل بالعمل يعني في جوهره عدم انتظار أحد، فمستقبلنا سيُحدَّد على قدر ما نعمل، وعدم انتظار أحد يعني الاعتماد على الذات في حشد الموارد الوطنية واستثمارها بكفاءة في مكامن إنتاج تحقق أكبر المنافع والقيم المضافة، كما أن الرد على الحصار يكون بالعمل والإنتاج.
وبالأمل بالعمل لا يعني العمل مجرد مفهوم مادي، بل هو إعادة تجديد للهوية والانتماء، فأي عمل منتج مادياً وفكرياً هو لَبِنة من لَبِنات صمود الدولة وسيادة قرارها المستقل.
إن تحويل الأزمة إلى فرصة تنموية هو أمر ممكن لكن يتطلب استحداث نهج تنموي جديد يحشد الموارد الوطنية كافة ويسخرها لتحقيق انتعاش اقتصادي منصف وعادل، وإعادة بناء البنية التحتية المادية والمعنوية، كما يتوخى توليد المعرفة والابتكار وتوظيفها في إدارة وحماية الموارد تلبيةً لحاجات الأجيال، وتوظيف المعرفة والتكنولوجيا وإعادة بناء منظومة القيم والسلوكيات.
كل ذلك يتطلب الانتقال إلى نموذج تنموي جديد، يجمع بين متطلبات الاستجابة الفورية للتعامل مع تأثيرات الحرب وبين التخطيط المستقبلي ضمن رؤية تجمع بين الواقعية والطموح، وينطلق من الإمكانات الذاتية.