قضايا وآراء

سقوط الرهان الأخير

| عبد المنعم علي عيسى

لربما من الجائز الآن القول إن توقعات أكثر المتفائلين، ومعهم الخبراء والمحللون، لم تكن لتلامس سقوف الحدث الحاصل يوم 26 أيار السوري في تراسيمه وفي الصورة التي جاء عليها، ولا نقول ذلك للإشارة إلى أن التوقعات السابقة لهذا الحدث الأخير كانت تشير إلى إمكان أن تشهد صناديق الاقتراع حالاً من الجفاء مع الناخبين، وإنما نقول إنها، أي تلك التوقعات، كانت في بعضها تومئ إلى أن الحرب الطاحنة التي لم تترك أيّاً من السوريين بعيداً عن آلامها وشظاياها، هذه الحرب سوف تكون في مفاعيلها محددة لسقوف الروح التي سيخوض بها السوريون معركتهم التي كانوا يدركون أنها مفصلية في مسار أزمتهم، والتي ما انفك الخارج يمدها بالمحفزات والمنشطات الكفيلة بإطالة أمدها في رهان واضح على الزمن الذي إذا ما طال أمده فإن ذلك سيكون كفيلاً بخلق تحولات نوعية يمكن البناء عليها، وعندها فقط يمكن الإمساك بالريشة والورق لرسم لوحة سورية الجديدة التي توائم رؤية ومصالح هؤلاء.
قد يكون فعل الكتابة عما جرى، ذاك الذي يعرض بالضرورة لرصد الحدث وتقييمه من شتى النواحي والجوانب، لا يزال مبكراً إذا ما أراد القائم بالفعل تقديم صورة شافية تعطي الحدث حقه، فما جرى بحاجة لوقفة مطولة تتيح دراسة المعطيات واستخلاص المقدمات التي قادت إلى النتائج التي كرسها ذلك اليوم الذي سيحفر عميقاً في ذات السوريين، وفي غضون فعله ذاك سيمضي في ردم الأخاديد التي حدثت في أغلبها بفعل عوامل «الحت والتعرية» التي كانت رياح الخارج تأتي بها من كل حدب وصوب، فيما التقديرات المؤكدة، عند هذا الأخير، كانت تقول إن عمق تلك الأخاديد كان قد وصل إلى مرحلة غير قابلة للردم تحت أي ظرف كان.
فجأة، هكذا ومن دون مقدمات، ولربما من دون كثير من التحضيرات، قرر السوريون قلب المشهد رأساً على عقب، والرمي بقفاز التحدي بوجه كل هذا العالم، محيلين في الآن ذاته كل الخطط، ومعها كل التنبؤات، التي كانت تضعها أو تتبناها الغرف السوداء المغلقة، إلى أرشيف تراكم حتى غدا متخماً تضيق خزائنه بما تحتويه.
كان منظر الناخبين وهم يضعون أوراق اقتراعهم في الصناديق فعلاً يتعدى ما ترمي إليه نظائرهم في دول أخرى في مناسبات كهذه، فهم في ثقلهم الوازن كانوا يريدون القول إنهم لا يزالون يملكون زمام المبادرة لإحداث تغيير جذري في المشهد السوري على طريقتهم التي لم تكن من بين الاحتمالات الموضوعة على طاولة الباحثين والمهتمين بالشأن السوري، وعبر قيامهم بذلك الفعل قدموا مشهداً مذهلاً، كانت كل التوقعات تستبعده، فمن طحنته الأزمة بشتى أنواع «الماكينات» بدا وكأنه تعالى فوق جراحه مدركاً حقيقة أن الفعل السابق لن يكون إلا عابراً في مسار فرض على بلاده، والتوقف عند جزيئاته سيكون فعلاً من شأنه تكريس المكاسب على ضفاف خارج ما انفك يستل السلاح تلو السلاح في متوالية لا تنتهي لتقطيع أوصال النسج التي شكلت على الدوام خميرة النهوض التي لا تنضب، والتي كانت على رأس قوائم الاستهداف الأولى ما تؤكده وثائق عدة، وبعيداً عنها تؤكده سياقات الأحداث التي كانت تحث خطاها في ذلك الاتجاه.
في 25 أيار الجاري، أي قبل أربع وعشرين ساعة على انطلاقة الانتخابات الرئاسية السورية، صدر بيان موقع من وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، والبيان في خلاصته كان قد أكد على «لا شرعية» لتلك الانتخابات، وفي تبريره للخلاصة السابقة الذكر قال لأنها «تجري خارج إطار القرار 2254»، كان ذلك نوعاً من الشد في مقابل كتلة يمثلها حلفاء دمشق كانت تبدي دعمها اللامحدود لإنجاز ذلك الاستحقاق، والبيان في عمقه كان فعلاً إعلامياً لا مشروعية سياسية له، يرمي موقعوه من خلاله إلى إثارة الضجيج الذي يمكن أن يولده موقف صادر عن تكتل غربي وازن كذاك الذي تمثله الدول الخمس السابقة الذكر، ففي 21 نيسان الماضي قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك في معرض تعليقه على الانتخابات الرئاسية السورية أنها، أي تلك الانتخابات، «ليست جزءاً من العملية السياسية التي ينص عليها القرار الأممي»، وحين عرض في حديثه آنف الذكر لموقف الأمين العام أنطونيو غوتيرش قال دوجاريك إن الأول يرى «أن هذه الانتخابات ليست جزءاً من العملية السياسية، ولسنا طرفاً منخرطاً فيها، وليس لدينا تفويض بذلك».
لربما كانت إحدى الإشارات التي أراد السوريون إرسالها إلى العالم يوم الـ26 من أيار واليوم الذي تلاه بعيد إعلان النتائج في وقت متأخر من هذا اليوم الأخير، هي أننا لسنا «مفرخة» للإرهاب كما أراد الكثيرون تصويرنا، بل لن يستطيع أحد دفع السوريين لكي يمارسوا ذلك الدور، ولا حتى أن يسمنا أحد بذلك الوسم، نحن نواة حضارة عمرها من عمر التاريخ، وخميرتها لا تزال مكنوزة على جيناتنا الوراثية، وفي أتونها عرفنا الاستقرار، بل صدّرنا مفاهيمه للمحيطين القريب والأبعد، وعليه، فإن على العالم برمته محو تلك الصورة التي اختزنها في ذاكرته عنا، أو بمعنى أدق تلك الصورة التي اشتغلت ماكينات إعلامية عملاقة، تعتد بأكداس مال لا ينضب، على تسويقها في ظل عصر سطوة الصورة التي باتت سمة هي الأبرز من سمات هذا العصر، والفعل أدى من حيث النتيجة إلى مآلات كارثية ارتدت في جزئها الأكبر عليها، إذ لطالما بات من نافل القول إن ذلك النهج كان قد أدى إلى نزع صفة الحيادية عن وسائل إعلام عملاقة، وعريقة، بل لها دور مشهود في قولبة المزاج العام الذي يسود مجتمعاتها، وتلك رؤية لا بد أن تصبح اليوم محل تحليل في الغرب الذي كان في السابق يبتني سياساته، بدرجة كبيرة، استجابة للمزاج العام السائد في مجتمعاته، في حين بات اليوم يعمل، عبر وسائله السابقة، على تصنيع ذلك المزاج لتمرير سياساته التي أقل ما يقال فيها إنها باتت بنكهة مفرطة من «البراغماتية» التي تعمل على تحقيق مشاريعه بعيداً عن أي معطيات أخرى، من نوع وجوب ملاءمتها للتركيبة القائمة في البلدان التي تطولها تلك المشاريع، وكذا الأولويات القائمة عند شعوبها، ومن المؤكد أن تلك النزعة كانت قد أسست، ولسوف تظل تؤسس لاحقاً طالما بقي هذا النهج، للعديد من الأزمات على امتداد هذا العالم، كان من نتيجتها مراكمة المزيد من الدمار والقتل والتشريد، من دون أن تضيف بالضرورة مكاسب تذكر لغرب بدت ماكيناته الفكرية صدئة، أو هي عاجزة عن فهم حيثيات، لا بد من فهمها، فإن تعتش تلك الماكينات على تصدير الأزمات فحسب، فهذا أمر سوف تكون له تداعياته الخطرة على داخل يعيش، هو الآخر، أزمات من شتى الأنواع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن