حكايات ابن بطوطة شاهد عصره وعظة اليوم … يقدم كنعان هذه المختارات بطزاجتها لتؤسس فكرياً وفنياً للقص والخيال
| إسماعيل مروة
في مناهجنا الدراسية القديمة التي درسناها عندما كنا طلاباً، قرأنا كتاب الموسيقي الأعمى من الأدب العالمي، والتراب الحزين من القصة القصيرة لبديع حقي، ورحلة ابن بطوطة بغلافها الأخضر، وهو كتاب لطيف يشعل الخيال، ويجعل العالم بين يديك من أقصاه إلى أقصاه، ولم نكن نعلم حينها أن واضعي المناهج اجتهدوا في تهذيب الرحلة واختصارها لتصبح صالحة كمثال لأدب الرحلات في تراثنا، وما أزال أذكر وصفه لطائر الرخّ، ومبالغاته التي تقترب من الأسطورة، وفجأة لم تعد هذه الرحلة في المناهج، وتغيرت المقررات التي كانت تلهب المشاعر لتحل محلها مناهج أخرى جديدة.
حكايات ابن بطوطة
واليوم يصدر في دمشق عن دار التكوين كتاب مهم هو (حكايات ابن بطوطة) وفي توصيفه أنه من اختيار وتقديم علي كنعان، والإسمان يحتاجان منا وقوفاً، ابن بطوطة وعلي كنعان، فها هو ابن بطوطة يعود في كتاب من الاختيارات، لكنه أكبر وأضخم مما قرأناه في مراحلنا الدراسية في المدارس، ويحمل اسم المختارات، والذي أخلص لهذه المختارات أديب مميز وشاعر قضى عمره في الثقافة، وهذا يستدعي الوقوف طويلاً، فهو اختيار غير مطلوب، وقام به أديب خاص من نفسه، ما يدل على وجود ما يستحق في هذه الرحلة، من الجوانب الفكرية والحياتية والسياسية والأدبية، وإلا كان الشاعر قد صرف جهده تجاه كتاب آخر في رحلته، ولكن في الرحلة والحكايات ما يستحق، وبدأ ذلك من العنوان، حكايات ابن بطوطة، فلم يحمل اسم رحلة ابن بطوطة، ولم يحمل الاسم الذي وضعه ابن بطوطة، وإنما حمل اسماً جديداً هو الحكايات، وهنا يقتضي الانتباه في التركيز على فن الحكاية عند هذا الأديب والرحالة.. وحين قراءة هذا الكتاب وقفت عند قضايا مهمة لمصلحة الأستاذ كنعان والناشر على السواء.
الحكايات بنت زمانها
اعتدنا في المختارات أن يتدخل القائم بالاختيار، أو الجهة المسؤولة عن النشر، وذلك بالحذف والتغيير والاصطفاء بما يناسب الميول والأهواء لكليهما، أو للشرائح المستهدفة، أو للسلطات الحاكمة، أو للذوق السائد، والأمثلة كثيرة أمامنا، من ألف ليلة وليلة، وحتى آخر كتاب تراثي تمّ نشره، وهناك أمثلة حية من رحلة ابن جبير وسواها.. وقد تكون الغاية إسباغ هالة من العلم والتوقير للكاتب الأصلي، فيظهر منه غير الحقيقة، كأن يصبح مشابهاً للعلمانيين وهو ليس كذلك، أو مماثلاً للصالحين وهو ليس كذلك!! ولعلّ أهم ميزة في اختيارات علي كنعان ودار التكوين، على السواء، الحفاظ على هوية الحكايات، والكاتب بكل الأبعاد الفكرية والثقافية، بل والدينية والمذهبية في ذلك الزمن، لتكون الحكايات بنت ذلك الزمن، وليست بنت زماننا، ولو جعلناها مناسبة لميولنا وقرّائنا، فإننا يجب أن نكتب نحن ولا ننسب إليه، ومن ذلك ما يفعله بعض المترجمين من توقير للإسلام وشخصياته في كتاب مترجم، وهو في الأصل ليس كذلك، ولو بقي على هيئته تلك فإنه سيعطينا فرصة الردود والدراسة، وكذلك عندما ننشر كتاباً تراثياً نخفي الجوانب الذاتية للمؤلف حرصاً على مكانته بين الناس والقراء والباحثين، ولا ندري أننا بذلك التدليس نخلق شخصية أخرى غير شخصية المؤلف!
لماذا الرحلات؟
في مقدمته التي حملت عنوان الاستهلال يقدم كنعان بين يدي الرحلة نفسها، وبين يدي أدب الرحلات، ليحدد الريادة قبل ابن بطوطة لابن جبير، فهو لا ينحاز إلى الكتاب الذي يقدمه للقراء ليجعله الأول والأهم، ويفصّل، ونحن نحتاج هذا الأمر، في الرحلات وغاياتها، فهي اقتصادية وثقافية وفي طلب العلم، لكنها عند العرب كانت في الأصل والأعم الأغلب رحلة حج، إذ يقصد بعض العلماء والأدباء الحج، وبما أن الحج كان بلا حواجز جغرافية، وكان شاقاً وطويلاً، فإن عدداً من هؤلاء تتحول رحلة الحج عندهم إلى رحلة أدبية وفكرية ومعرفية، وقد ينتج عنها مؤلفات تتحول إلى وثائق مفردة ترسم للثقافة والمجتمع والعادات والتقاليد، كما هو حال رحلة ابن بطوطة، ومن قبله ابن جبير، وقد تتحول الرحلة إلى حياة طويلة متطاولة كما عند ابن بطوطة الذي صارت رحلته أكبر من عمره عندما بدأ الرحلة، فجاوزت ربع قرن من الزمن.. ويؤكد كنعان في استهلاله أن هذه الرحلة لم تدوّن في أثناء الرحلة، وإنما أملاها ابن بطوطة بعد عودته بزمن، ودوّنها ابن جُزي، وفي هذا الأمر كما أرى المجال لنسيان الكثير من التفاصيل، وهو ما يجعلها مختصرة، ويضيف إليها الكثير بين التمحّل والكذب، لأن الكاتب يملي على آخرين، قد تدفعه الأنا لاختلاق ما لم يكن، وللمبالغة في أحسن الرحلات.. وكان من الضروري ما قام به علي كنعان في الحديث عن الرحلات وغاياتها، فالرحلات عند الأوربيين والمستسشرقين كانت غاياتها مختلفة، وقد تكون بخلفيات سياسية واستخباراتية، بينما الدوافع عند العرب مختلفة، واختلاف الدوافع ليس لإعطاء براءة للرحالة العرب، وإنما ليوجه الدارسين من دراستها، فجوانبها وموضوعاتها مختلفة تمام الاختلاف عن أدب الرحلات الذي تدرسه عند الأمم الأخرى، علاوة على أن الرحلات العربية هي من المغرب والأندلس في رحلة العودة إلى الجذور، وفيما بعد كانت رحلة عبد الغني النابلسي وغيره من المشرق وبغاية الحج والمعرفة.
رواسم للباحثين
زمن التسجيل، الجغرافية والقصيدة، عوالم الحضارة، الأخلاق، المرأة ومكانتها، الحكاية والقص، تناول كنعان مجموعة من القضايا المهمة في هذا الاستهلال، وبرع في الاختصار والتكثيف، لأن الغاية عنده ليست تقديم دراسة، بل يقدم هوى قي قراءة هذه الرحلة والعصر، وأظن هذه الملاحظات كانت ذكية وكافية، خاصة أن كنعان ركز على صفات ابن بطوطة كلها، فهو مغربي، وهو شيخ، وهو فقيه، وهو عالم، وهو مالكي، وهو شاب لم يتجاوز عمره الربع قرن عندما بدأ رحلته، وهو صاحب خيال مجنح، وكل ذلك يقدمه ليمهد السبل لدراسة الرحلة بشكل موضوعي، فنحن لسنا أمام رحلة لشخص عادي يسجل يومياته، بل نحن أمام شيخ عالم فقيه، يحمل مذهبه بعلم ليجوب العالم ويقدم تجربته، وإشارات كنعان تظهر حقائق نحاول أن نخفيها أو نتخفى منها، وهي موجودة في الرحلة والحكايات وليست مستخلصة، وصرّح بها ابن بطوطة بنفسه، ما يدل على الاعتقاد بها، وعدّها غير مخالفة لقواعد الشريعة والمذهب، فالذي يضع نوعاً من التطابق بين العقيدة وعالم الدين سيخرج عن قناعته وهو يقرأ هذه الحكايات، والذي يحاول أن يعطي الأفكار والعقائد حقها وتأثيراتها على حياة ابن بطوطة، وحسبنا أن نقف عند إشارته إلى مكانة المرأة لنكتشف ذلك الفكر المزدوج عند عدد من العلماء المسلمين غير قليل، لا يعير الرحالة المرأة أي اهتمام خاص، ولا يشير إلى تميزها وجدارتها بالاحترام والتقدير، إلا إذا كانت من اللواتي أحطنه بالإحسان والإكرام، وهن غالباً من بنات السلاطين والأمراء أو زوجاتهم أو أمهاتهم ولا أبغي هنا أن أظلم الرجل أو أنظر إليه في معيار حقوق الإنسان في عصرنا، إذا قلت إن المرأة ذات قيمة دنيا منحطة في نظره، حتى وإن كانت زوجه وأم أبنائه، إنها للمتعة، لا أكثر، أما مسألة الإنجاب فلا تشغله، ولا تستأثر بشيء من اهتمامه».
والأحكام مستنبطة من كلام ابن بطوطة نفسه في رحلته «أقمت بهذه الجزيرة سبعين يوماً، وتزوجت بها امرأتين».
ومن حق القارئ هنا أن يتساءل: ما الفرق بين السلسلة الطويلة من الزوجات الموسمية والبغاء المغطى بغلالة مهلهلة من الشرع؟!
ويذكر كنعان من خلال تتبعه للرحلة «هذا الشغف العميق بالمرأة، وهو شغف يمر ذكره عابراً كأي لون من الطعام أو نوع من النبات».
ومن الطريف ما وصل إليه كنعان وهو العارف بمشيخة ابن بطوطة إذا تذكرنا أنه أدى فريضة الحج ست مرات، فهل كان يدرك مدى الأخطاء حتى لا نقول الأيام التي وقع فيها، والتمس الحج ابتغاء التطهر ونيل الغفران؟!
وللحكاية دورها
يقف علي كنعان عند فن الحكاية، ولا يكتفي بذكر القضايا الاجتماعية، وهو الأديب والشاعر القادر على فهم دور الحكاية وتقديره، وخاصة أن تراثنا الشعبي مثّل مصدراً من مصادر القص، بل إن هذا التراث حمل مواصفات القص من التخييل إلى المبالغة والواقع. «وسنرى أن الواقع والخيال يتجاوران فيتقاطعان في كثير من هذه الحكايات، ولا يمكن أن نتغاضى عن عنصر الخرافة والتهويل المبثوثة في العديد من مروياته بعضها وصل إليه عرضاً وقبله من دون تمحيص، وبعضها الآخر، ولاسيما ما يتعلق منها بكرامات الأولياء، يستند إلى السماع من أفواه الآخرين, والعهدة عليهم لا عليه، لكن عدداً كبيراً منها، شهد الشيخ أبو عبد الله وقائعه بنفسه وخبر حلاوته ومرارته».
حكايات ابن بطوطة للأستاذ علي كنعان لا يمثل مختارات وحسب، ولكنه يقدم لنا صورة مجتمعية وسياسية وفكرية وفنية حكائية لمرحلة من المراحل التاريخية العربية، وما الإشارات التي أشار إليها في استهلاله إلا مفاتيح لدراسة هذه الحكايات، بل ودراسة ما ماثلها من كتب ورحلات، ووضعها في إطارها الزمني والفكري، ومن دون أي حذف للتجميل، فالأدب ابن بيئته، دراسته ودراسة طازجة كما هو تعطي فكرة مناسبة، وربما أوحت بالكثير من الحلول لقضايا شائكة، يحاول بعضهم أن ينكرها وينكر وجودها ليسبغ على عالم أو زمن أو فكر ما ليس فيه، مع ما في ذلك من ضرر كبير في الوصول إلى دقائق فكرية غاية في القيمة.