قضايا وآراء

بلينكن في المنطقة

| عبد المنعم علي عيسى

لم تكد تتوقف فوهات المدافع عن رمي مقذوفاتها بعيد الإعلان عن التوصل لوقف إطلاق النار ما بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية يوم 20 أيار الماضي بوساطة مصرية كانت قد حظيت بدعم خليجي واضح، حتى هرع وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن إلى المنطقة ليحط رحاله في فلسطين ومصر والأردن، في جولة تذكر، أكثر ما تذكر، بجولات سلفه السابق هنري كيسنجر الذي سارع ما بعد وقف إطلاق النار، الذي سرى مفعوله يوم 22 تشرين الأول عام 1973، إلى المنطقة في محاولة لقطع الطريق أمام كل من دمشق والقاهرة اللتين كانتا ستعملان، وفق التقديرات، لترجمة النتائج المستحصلة في ميادين المعارك إلى مكاسب سياسية، إذ لطالما كان من المؤكد أن أي عمل عسكري، ومهما تكن النتائج أو الانتصارات التي قاد إليها، يظل بلا قيمة تذكر إذا لم يعقبه عمل سياسي ينجح في تحويل مكتسباته العسكرية إلى أرصدة في بنوك السياسة تلك التي تعود للمنتصر، وفي حينها استطاع كيسنجر جر قاهرة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات إلى معاهدتي فك الاشتباك الأولى والثانية صيف وخريف عام 1974، اللتين كانتا مقدمتين لازمتين لمعاهدتي كامب ديفيد الأولى والثانية في العامين 1978-1979 على التوالي، حيث عنت الأخيرتان بدورهما خروجاً لمصر من الصراع الدائر في المنطقة بشكل نهائي.
وهذا ما يستدعي المقارنة بين زيارتي كيسنجر وبلينكن للمنطقة، أمور كثيرة لعل أبرزها هو أن كلتا الزيارتين جاءتا بعد حراك عسكري لم تستطع إسرائيل فيه أن تكون رابحة، هذا إن لم نقل إنها كانت عاجزة عن الحسم العسكري في كلتا الحالتين، ومنها، أي من تلك الأمور، أن المنطقة تمر تماماً بوضعٍ، كما كان الوضع عليه منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بوضع جيوسياسي هش ناجم عن حدة الانقسامات الحاصلة بين دولها تجاه العديد من المسائل المفصلية، ناهيك عن وجود عوامل أخرى لا تقل أهمية مثل تمركز الثقل العربي الآن في الخليج، وهو الأمر الذي يشبه تقريباً نظيره في عام 1974 بفعل فورة النفط الحاصلة آنذاك التي حصلت بقرار أملته المصلحة الأميركية التي كانت تريد إرسال رسالة إلى أوروبا مفادها أن مشروع «مارشال» الذي تعهدت واشنطن بموجبه للأخيرة الحصول على طاقة رخيصة للمساعدة بإعمار القارة العجوز في أعقاب الدمار الذي لحق بها إبان الحرب العالمية الثانية، هذا المشروع قد انتهى، وليس بقرار سعودي جاء انتصاراً لكل من دمشق والقاهرة إبان إعلانهما الحرب على إسرائيل في تشرين الأول 1973 كما تشير العديد من الكتب بل أيضاً المناهج أيضاً.
جاء بلينكن إلى المنطقة ليحاول تثبيت التهدئة التي بدت غاية في الهشاشة، حتى ليمكن القول إنها كانت نتيجة لحالة احتياج إقليمي دولي، أكثر من كونها حالة احتياج لطرفي الصراع، ومن المؤكد أن الوزير الأميركي لم يكن يحمل في جعبته أي طروحات يمكن لها أن تشكل أرضية لازمة، وكافية أيضاً، لإخماد طويل للنار التي لا تزال العديد من الوقائع ترجح اندلاعها من جديد، فما طرحه، في المحطات التي توقف فيها، كان متماثلاً، وإن كان فيه بعض الاختلاف على ضفته العربية عما هو عليه على الضفة الإسرائيلية، الأمر الذي تفرضه طبائع الأشياء التي تقول إن الضفة الأولى، أي العربية، هي الأقرب لطرف الصراع الفلسطيني المراد ترويضه.
تركزت طروحات بلينكن على أمرين اثنين، الأول هو الحديث المسهب عن الجوانب الإنسانية والإعمار في غزة بعيداً عن حماس، والثاني وجوب التفريق بين «المعتدلين» و«الإرهابيين» في الشعب الفلسطيني، ومنه، أي من التركيز السابق، يمكن القول إن النهج الذي حمله الوزير الأميركي يقوم على سياسة اللعب على الوقت ومحاولة جر السلطة الفلسطينية إلى خندق تلعب فيه دور ضرب الدور الذي تقوم به كل من حماس والجهاد الإسلامي، ومن الراجح أن تكون المنهجية التي تقوم السياسة الأميركية عليها الآن في مقاربتها للصراع، بتنسيق تام مع دولة الاحتلال، تقوم على محاولة إنضاج نسخة ثانية من أوسلو «أي أوسلو 2» تكون كفيلة بتمرير 25 سنة أخرى من التفاوض، وفي أتونها سيكون الرهان على إحداث متغيرات على الساحة الفلسطينية تكون كفيلة بتخفيض سقف الجغرافيا التي أقر بها «أوسلو 1» في أيلول من عام 1993 والتي قبل الفلسطينيون من خلالها إقامة دولتهم على 22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية.
معركة «سيف القدس» استطاعت عبر مدة قصيرة تغيير ميزان القوى القائم، بل استطاعت فرض معطيات جديدة على الصراع، ولسوف يرتكب الفلسطينيون خطأ استراتيجياً فادحاً يحمل الرقم 2، بعدما حمل أوسلو الرقم 1، إذا ما قبلوا الدخول في مفاوضات تكون تحت سقف ذلك التغيير وتلك المعطيات، عندها ستكون محاولات بلينكن الرامية للقفز فوق نتائج معركة «سيف القدس» قد حققت أهدافها.
لم تكن حماس تدرك بالتأكيد، عندما قررت في الساعة السادسة من مساء 10 أيار المنصرم إطلاق صواريخها الأولى باتجاه تل أبيب، أنها تدخل القضية الفلسطينية منعرجاً هو الأهم منذ انتفاضة العام 2000، ومع هذي الأخيرة تدخل المنطقة بشكل عام في أتون مناخات جديدة لربما كان الكل بحاجة لها.
الآن، ليس مهماً أن تبقى كل من حماس والجهاد الإسلامي على لوائح الإرهاب الأميركية، وذاك فعل يرمي بالدرجة الأولى للتأثير على الداخل الفلسطيني قبل أن يكون هدفه إعطاء الذريعة لتل أبيب باستهدافهما، بل المهم أن يبقى كلٌ من الفصيلين على ثوابتهما والإبقاء على قوة ردعهما التي ظهرت في المواجهات الأخيرة، ولتكن تجربة «أنصار الله» في اليمن ماثلة الآن أمام الفلسطينيين، فهؤلاء رفعت واشنطن اسم حركتهم مؤخراً عن لوائح الإرهاب الأميركية فقط لأنهم أثبتوا أنهم عصيون على الترويض، وأن المرونة يجب أن يكون الطرف الآخر هو المعني بها، فنحن نقاتل على أرضنا، وليس على أرض الغير، أما السلطة الفلسطينية فهي معنية اليوم بالدرجة الأولى بإيجاد تلاقيات جديدة مع كلتا الحركتين تأخذ بالحسبان المتغيرات الأخيرة، والتلاقيات وحدها هي القادرة على تحصين هذه الأخيرة والمحافظة عليها، إذ لطالما ثبت، في الحالة الفلسطينية على وجه الخصوص، أن تحصين البيت الداخلي ذا أثر يفوق في تداعياته كل موازين الخارج، فكيف الأمر إذا شهد هذا الأخير مؤخراً انزياحاً ملحوظاً نحو الحق الفلسطيني؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن