ثقافة وفن

«على صفيح ساخن».. دراما بنيت بحد الواقع لا بنصل السكين

| خلدون عليا

لا يختلف اثنان على النجاح الذي حققه مسلسل «على صفيح ساخن» للكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج سيف الدين سبيعي وإنتاج شركة «غولدن لاين»، فالعمل استقطب شريحة واسعة جداً من الجمهور وأعاد بشكل أو بآخر الشغف للدراما المعاصرة السورية الخالصة التي كانت السبب في الألق والانتشار الذي حققته الدراما السورية سابقاً.

في هذا العمل يستحضر علي وجيه ويامن الحجلي كل تجربتهما في بناء حكاية يمكن وصفها بالمتينة المتكئة على حجارة الواقع وزواياه الضيقة والفسيحة.. يغوص العمل في كل مشهد منه بحكايا الناس ويخوض لأول مرة بشكل مفصل بعالم تجار القمامة، هذا العالم المتشابك الذي استطاع كاتبا العمل أن يبنيا عالماً درامياً حقيقياً من خلاله فأخذانا إلى تفاصيل ربما لم تكن تعني أياً منا ولكن عندما شاهدناها على الشاشة استمتعنا بها وهنا تكمن حرفية وبراعة الكاتب في أن يستقطب الجمهور لحكاية جديدة.

ما يميز نص المسلسل هو أنه بني بهدوء ولكن بإيقاع عالٍ حيث يسير المسلسل بنسق متصاعد من بداية الذروة وصولاً إلى النهاية… ومع ذلك تنام الحكاية بعض الأحيان في مطب الإطالة المرتبطة بالثلاثين حلقة، ولكن جدية الحدث الدرامي وارتباطه بعالم مختلف تجعل المشاهد لا يحس بأن الحكاية خفتت لأن هناك حوامل اعتمدها الكاتبان في إعطاء دفعة وأبعاد جديدة ومختلفة للعمل بعيداً عن قصصه الرئيسة… هكذا كانت حكاية «شمس» رافعاً غنياً للحدوتة الدرامية وباعتقادي أن هذا هو أصعب خطوط المسلسل وأكثرها تعقيداً وصعوبة، فعلى الرغم من أن هذا الخط بني على السرد المتواصل إلا أنه لم يكن مملاً بل كان رافعاً حقيقياً للعمل، فحكاية أصحاب النعم الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا ثروة وانعكاس ذلك على حالتهم النفسية يستحق التوقف عنده مطولاً، ولعل براعة «سمر سامي» في تجسيد الحالة نفسياً وجسدياً تركت أثرها العميق لدى المتلقي وشكلت حالة من الإجماع على جمالية هذا الجزء الخارج من الحكاية.

على المقلب الآخر يخوض العمل في تفاصيل دقيقة ومهمة في الحياة الاجتماعية فحكاية «هلال» ( باسم ياخور) تشبه تماماً حكاية عض الأصابع مع الحياة على مبدأ من يصرخ أولاً، هكذا يأخذنا الكاتبان إلى عوالم معقدة في تجارة المخدرات والدور التخريبي الذي يلعبه البعض في المجتمع لتحقيق مصالحهم.

يلعب علي ويامن على حافة الألم يحركانه فجأة لتصرخ الحكاية بعيداً عن الاستعراض المجاني والثرثرة الفارغة لتترك المشاهد على صفيح ساخن فعلاً.

بالمقابل شكّل هذا العمل بوابة العودة للمخرج سيف الدين ليعود إلى ما كان عليه فلا يختلف اثنان على موهبة سيف وحضوره ودوره في تقديم عدد من أبرز الأعمال السورية سابقاً.. لكن ربما الظروف عاكسته وأبعدته عن مكانه الطبيعي فشكل المسلسل بوابة عبور نحو مكانه الطبيعي بين النخبة، فاستطاع سيف التعامل مع الحكاية بمنطق درامي وتقني بسيط وشائق فالتقط أجمل اللحظات الدرامية بسلاسة وببناء وصورة تخدم المشهدية العامة للعمل بعيداً عن محاولات استعراض فكان سيف قارئاً للنص بشكل جيد وتعامل معه بمنطق عقلاني ومميز على صعيد الصورة وتصور المشهد بصرياً من زواياه المختلفة لتقديم الحكاية بأشخاص من لحم ودم.

ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبه مهندس الديكور فالحالة العامة للصورة بدت متقنة من مكب النفايات إلى أثاث المنازل وتصورها العام فكلها بنيت بما يخدم الحالة العامة للحكاية بعيداً عن البهرجة والمجانية المفرطة فقد بدا الشكل العام للمشهد بسيطاً وملائماً للحالة الاجتماعية لشخوصه، بالمقابل تبرعت مصممة المكياج في تقديم شخوص العمل بطريقة مميزة وذكية فتعطي إطلالتهم أبعاداً تناسب شخصياتهم فتصبح أشكالهم جزءاً من الذاكرة الجمعية ببساطة وحرفية عالية جداً.

أما على صعيد الأداء التمثيلي لنجوم العمل فيبدو كل نجوم العمل في مكان آخر يطلقون العنان لبراعتهم في رسم شخصيات من لحم ودم بأداء اتسم بالواقعية، لعل شخصية «الطاعون» التي جسدها القدير سلوم حداد تعطينا نموذجاً عن الشغف الذي يملكه هذا الرجل الذي لا يتعب من أن يثبت أنه يبحث كل يوم عن جديد فيتكئ على كل سنوات خبرته وتجربته الكبيرة ويقدم شخصية لن تمحى من ذاكرة الجمهور. يقوم سلوم حداد بدوره ببراعة بتكنيك وإيقاع منضبط.. يوازن بين حركات الجسد وردات الفعل والحالة النفسية العامة للشخصية بطريقة مدهشة فعلاً.. يبدو أبو أمير فعلاً وكأنه شاب عشريني يملك موهبة عالية أعطيت له الفرصة وكان عليه أن يقتنصها.. ربما هو شغف الكبار الذي لا يفارقهم.

وبالمقابل شهدنا عودة مميزة للنجم باسم ياخور للأعمال المعاصرة فلا يمكن أن يفوت نجم بقيمة باسم مناسبة كهذه من دون أن يثبت أنه ممثل من طينة خاصة.

هكذا يتلاعب باسم بشخصية «هلال» بكل ما حملته من أمل وألم ووجع فيقدمها بكل بساطة وعفوية وبنفس الوقت بكل صعوبتها وتشعبها وتعقيدها… يستند باسم في كل أدواره على قدرته الكبيرة على التجسيد والتنوع والتحكم بمفاتيح شخصياته فيطوعها لتكون طوع موهبته وقدرته على القول أنا الصانع هنا.

وبكل تأكيد فقد شكل حضور الوجوه الشابة ميزة في هذا العمل فشهدنا تفوقاً كبيراً بأداء سليمان رزق وجنى العبود واستغلال الفرصة التي أتيحت لهما، وبالمقابل لا يمكن إنكار الاختلاف والبراعة التي قدم فيها كل من يامن الحجلي وعبد الرحمن قويدر وعبد الفتاح مزين أنفسهم فيها وكذلك الأمر بالنسبة لميلاد يوسف وأمل بوشوشة الذين قدموا أدوارهم بمنطق معرفي بعيداً عن استعراض الأداء.

ولتكون ثنائية «عبد المنعم عمايري ونظلي الرواس» ثنائية من ذهب فالنجمان استطاعا خلق كيمياء خاصة بينهما وإيجاد حالة من التناغم والتفاعل بالأداء وصبغ شخصياتهما بحالة من الدهشة والإقناع وفي الوقت نفسه قدم الاثنان حالة مميزة من الأداء المتناغم المبني على الحالة الواقعية وارتباط الشخصيات بمنبتها بتكنيك مميز للتنقل بين حالات الضعف والقوة التي تمر بها شخصيتهما، فيعكسان ذلك بميزان أدائي مميز ويضبطان أدائهما على عقارب ساعة موهبتهما المميزة.

هكذا استطاع المسلسل أن يفرض نفسه بقوة بكل عناصره ولعل لبنته الأولى التي حضرت عناصر نجاحه كانت أنه بني على حد الواقع لا باستعراض نصول الخناجر والسكاكين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن