من دفتر الوطن

المَشَّاء

| حسن م. يوسف

ليس المَشَّاء الذي أقصده بهذا المقال أحد المتفلسفين ممَّن ساروا على فلسفة سقراط الذي كان يعلم تلاميذه ماشياً قبل نحو ألفين وأربعمئة عام، بل هو المَشَّاء الدكتور نزار عبد الله الذي فقدناه يوم الثلاثاء الماضي بحادث سير مؤسف!
صحيح أنني صادفت الدكتور نزار عبد الله مئات المرات، لأننا نسكن منطقة واحدة في دمشق، وغالباً ما كنت أراه ماشياً وهو يعتمر قبعة بيسبول ويرتدي حذاء طويل العنق فوقه بدلة عمل، ويعلق في كتفيه حقيبة ظهر، يوحي مظهرها بأنها لا تحتوي على كثير من المتاع، إلا أنني لم أجالس الدكتور نزار يوماً، ولم تتجاوز أحاديثنا الدردشة السريعة، رغم ذلك فقد شعرت بحزن عميق عندما تلقيت نبأ رحيله المفجع، لأن الدكتور نزار كان شريكي في تربية ابني رام. والحقيقة أن رام، الذي نادراً ما يبدي إعجابه بأي شخص، كان دائماً يتحدث عن الدكتور نزار عبد الله بإعجاب وتقدير. وقد نعاه على صفحته بقوله: «الدكتور نزار مات اليوم بحادث سير. الإنسان الذي جعلنا نعيش هذا البلد ونشوفها ونحبها بناسها ومناطقها، عشرات رحلات المسير والمخيمات، طلعناها بكل مكان في سورية مع الدكتور نزار هي من أجمل ذكريات حياتي، وأنا متأكد أنها من أجمل ذكريات كثيرين غيري. نحن مدينون بالحياة للدكتور نزار. الدكتور نزار مات اليوم، لكنه عاش وجعلنا نعيش أياماً كتيرة. لروحه السلام».
ولد الدكتور نزار عبد الله في قرية فارش كعبيه (منطقة بانياس، محافظة طرطوس) عام 1936. نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة غوته بفرانكفورت في ألمانيا. يقول الكاتب حسان يونس إن الدكتور نزار قد تعرف على رياضة المشي خلال دراسته في ألمانيا، إذ «تجول مع أصدقائه في الريف الألماني الجميل قاطعاً عشرات الكيلومترات في المسير الواحد».
عقب عودته إلى الوطن عام 1974 لم تستهوه الوظيفة فافتتح مكتباً خاصاً للدراسات الاقتصادية في دمشق، وعندما عين الدكتور عصام الزعيم نائباً لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، انضم لفريقه. تابع الدكتور نزار رياضة المشي في المناطق المحيطة بدمشق مع عدد قليل من الأصدقاء. لكن النقلة النوعية تمت في عام ١٩٨٠ عندما أسس فريق «سورية سيراً» لرياضة المشي والتخييم. وهو أول فريق من نوعه في سورية. كان هدف الفريق على حد قول الدكتور نزار هو «تعريف الناس بوطنهم والالتقاء على المحبة والاحترام وحب الوطن والتمسك بعروبته».
وقد وضع الدكتور نزار ضوابط أساسية لفريقه كان هو أول من يلتزم بها. وقد سمعت ابني رام يتحدث بحماسة عن مشاركة جميع أعضاء الفريق في تحضير الطعام وحمل الأواني ومعدات التخييم، إضافة لحفلات السمر الجماعية التي تقام في نهاية كل يوم مسير. واللافت أن الدكتور نزار لم يكن يسمح باصطحاب آلات التسجيل بل يطلب من المشاركين أن يعزفوا ويغنوا بأنفسهم، وغالباً ما كان رام يصطحب عوده للمشاركة في حفلات السمر تلك.
صحيح أن الدكتور نزار اشتهر كمشَّاء، لكنه كان باحثاً اقتصادياً تقدمياً نشر العديد من المشاريع الاقتصادية للنهوض بالاقتصاد السوري. كما ترجم العديد من الكتب العلمية والأدبية من الألمانية إلى العربية.
لقَّبوه «قاهر الجبال» ويشهد من عرفوه أنه «كان متواضعاً محباً للعطاء دائم النشاط، لم تفتر همته العالية في تحدي الصعاب رغم التقدم في العمر».
قبل ثلاثة أيام من وفاته بحادث سير، نظم الدكتور نزار عبد الله في يوم الجمعة 28 أيار الماضي آخر مسير له إلى «وادي النّعيم» في جبال يبرود، وفي اسم هذا المكان الأخير، إشارة باهرة لا تخفى على القارئ اللبيب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن