ثقافة وفن

الإنسان.. وتعاقب الأجيال

| إسماعيل مروة

ماذا على الإنسان أن يفعل في حياته حتى يكون جديراً بصفة الأنسنة سلباً أو إيجاباً؟!
وربما كان طرح السؤال يحتوي على مغالطة في الوجوب، ويمكن أن يطرح بصيغة أخرى: متى يكون إنساناًـ؟ الوهم يقتل الإنسان، والمصالح تحكمه، وضياع حدود المصالح تؤثر فيه تأثيراً كبيراً قد يدفعه إلى أماكن عليا، وقد يهوي به إلى المجاهل وإلى درك أسفل من الضعة والضياع، بينما لو وجدناه قانعاً بصفات الإنسان، فإنه سيكون مرتاحاً للغاية، وسيتحول إلى مبدع حقيقي في كل مجال يخوض فيه.. حين ننظر إلى رحلتنا وتدرجها روحياً وجسدياً ومعرفياً وعلمياً نكون أكثر قدرة على تقبل هذا التطور الطبيعي الذي هو من سمت الحياة، فالبداية يخطئ فيها هذا الإنسان بالرعاية والحب والحنان حتى يصبح قادراً على أن يكون وحده، وإذا ما فهم هذه القضية تحوّل من إنسان يتلقى الحنان، إلى إنسان قادر بنفسه، وربما تحول إلى مانح للحنان، وإن لم يعِ هذا الأمر بقي ذاك الضعيف المريض بروحه الذي يتذمر من الظلم، ومن ابتعاد الناس عنه، وعن خذلان أقرب الناس إليه له، وترتفع هذه الوتيرة لتحوله إلى إنسان أناني اتكالي يعبر الحياة من المبتدأ إلى الخبر بين عجز تارة وتذمر وتظلم تارة أخرى.. ودون أن يدرك أن ضعفه وعجزه ينجمان عنه هو لا غير، وليس عن ظلم المحيط به.
وحين يدرك الإنسان أن علمه وعمله لهما حدود لا يمكن أن يتجاوزهما، وأنه سيصل إلى مرحلة يتوقف فيها تجوهره ولمعانه، يمكن أن يحافظ على مكانته الجيدة والعالية والمحترمة، ولكنه حين يعتقد أن ما وصل إليه لم يصل إليه سواه، ولن يصل إليه سواه في يوم من الأيام، فإن وهم الأبدية سيغلبه، والظن بالخلود سيغمره، ولن يؤمن بتعاقب الأجيال، وبأنها آلت إليه لأنها لم تدم لمن جاء قبله، وسيتحول هذا المرء إلى متسول، لكنه متسول من نوع متسلط يصدق وهم عظمته، ويرى أن الآخرين بحاجته، ولا يمكن لهم أن يقوموا بشيء سواه، فالشخصية الاعتبارية تنسى أنها صارت لذهاب من قبلها، وتتوهم أنها المنذورة المنتدبة لهذا الأمر، والأستاذ يظن علمه لا ينفد، وبأن اللاحقين لا يملكون خبرته، ويغلبه وهم أطلق عليه الخبراء اسم الخبرة، وكلما ناقشته يقول لك: الآن اختمرت ونضجت! فلا هو يعترف بالصحة ولا المرض، ولا التقاعد ولا القدرات العقلية، فيبقى راجياً أن يقف موقفه الذي وقفه قبل ستين عاماً بصحة أو بغيرها، فيغادر الدنيا دون أن يجلس ساعات ليرقب أكوام سنواته، ودون أن يجري جردة حساب، ودون أن يستمطر الرحمات لنفسه من الذين زرعهم!
وقد عرفت، ومنذ المراحل الأولى، بعض الأساتذة، ومنهم من علمني، رأيتهم يوقعون باللون الأخضر حتى بعد رحيلهم عن موقعهم بسنوات وعقود، وحين تسألهم، يأتيك جوابهم صادماً، أنا الوزير، ولا أعترف بوزير جاء بعدي! يراهم صغاراً على الموقع! ويجب أن يبقى هو الوزير حتى رحيله..! وكم من متحزب لأحزاب كثيرة علمانية ودينية وصل إلى أرذل العمر، ولم يعد يعلم من بعد علم شيئاً، لكنه يصمم أن يهز رأسه، لتتحرك تغضنات رقبته كعُرْف الديك من الترهل، ليقول لك: أنا السيد، وأنا الفهيم الوحيد، وأنا صاحب الأفكار وحدي، وجميع الناس بعدي لا قيمة لهم، وحين يرحل، أو يغادر بصورة إجبارية يكتشف هو أنه لا قيمة له، ونكتشف نحن أن الحج يمشي من غير بائع الحلاوة، ولكن الفرق أن هذا الغرور الإنساني أعطى دوراً سلبياً على الوطن والمواطن وعلى الأفكار والأحزاب، فحنّط الحياة وسلب منها بريقها، بل جعل أجيالاً بعده لا تشعر بالارتباط والقيمة للحياة والفكر والإنسان!
بعيداً عن الإيمان والعقائد، فالأمر لا يقتصر على أصحاب العقيدة، حين ندرك أننا نمر بمراحل، نحتاج حدباً ونعترف، نعطي عطفاً ونجود، نؤدي دورنا بحيوية، نغادر المشهد بإرادتنا، حين ندرك ذلك سنقدم أفضل ما لدينا في الوقت الذي نقدر فيه على العطاء، وعلى الجهات الوصائية أن تقدّر الخبرات وأن تضعها لاستخلاص الأبحاث والمعارف، وهي في أعلى درجات التوقير والاحترام، والسماح للأجيال القادمة بقوة أن تجد نفسها، وأن تحقق ذاتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن