لا نعرف فيما إذا كان على المتابع أن يقرأ المقال الذي كتبه الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، والذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 26 أيار الماضي، بصفته محللاً سياسياً، أم بهذي الصفة الأخيرة مضافاً إليها صفته الرسمية التي يحملها، فالأخيرة تفرض عليه بالتأكيد نوعاً من الكتابة يختلف عن الصفة الأولى بحكم الموقع الذي يشغله، والذي يفرض عليه نمطاً من الكتابة هو أقرب لتقديم موقف قد لا يختلف كثيراً عن الخطب التي يلقيها في اجتماعاته أو تلك التي يعتمدها في مقابلاته التي يجريها.
عرض الأمين العام في مقاله سابق الذكر، لزيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأخيرة للمنطقة التي جاءت في أعقاب سريان وقف إطلاق النار ما ببن فصائل المقاومة الفلسطينية وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي يوم 20 أيار الماضي، واصفاً إياها بأنها «تحرك مهم يأتي في وقته، ويعكس إدراك الإدارة الأميركية لخطورة ما يجري، ولأهمية ومحورية الدور الأميركي في معادلة السلام والأمن في هذه المنطقة من العالم».
ومن المؤكد أن ذلك التوصيف يحمل الكثير من الواقعية، لكنها جاءت عند أبو الغيط بلكنة مفرطة تتماشى مع أدبيات السياسة المصرية، التي خرج هو منها، تلك التي سادت بعيد إطلاق الرئيس أنور السادات لنظريته الشهيرة التي تقول إن «الولايات المتحدة تملك 99 بالمئة من أوراق اللعبة في المنطقة»، والتي قادته لزيارة القدس المحتلة العام 1977، ومن ثم إلى كامب ديفيد التي جاءت على مرحلتين في العامين اللذين تليا هذا العام الأخير.
يقول أبو الغيط إن «قضية فلسطين عاشت حالة مخيفة وخطيرة من التجميد السياسي لما يزيد عن عقدين من الزمن، في الوقت الذي تنامى فيه المد اليميني في إسرائيل» وفي القول رصد صحيح للمرحلة التي تلت أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك التي فرضت لدى الأميركيين أولوية «الحرب على الإرهاب» التي لم تنته فصولها حتى جاءت أحداث «الربيع العربي» مطلع العام 2011، وكلا المرحلتين قادتا إلى تهميش القضية الفلسطينية التي تراجعت أهميتها عربيا ودوليا، لكن السؤال هو ما الذي فعلته الجامعة العربية لإبقاء، أو لمحاولة إعادة، الوهج إلى تلك القضية، حتى ولو كان الأمر معنوياً، خصوصاً أنها، وكما أثبتت المواجهات الأخيرة في القدس وغزة وأراضي الـ1948، لا تزال تغوص عميقاً في وجدان الشعوب العربية بدرجة لا يدانيها أدنى شك، وإذا كان الجواب على السؤال السابق بأن تلك المراحل كانت في عهدة أمناء سابقين، يمكن الرد بأن أبو الغيط كان يشغل بدءاً من العام 2004 حتى العام 2011 منصب وزير الخارجية المصري، ثم ماذا فعل منذ تسلمه لمنصبه الحالي بدءاً من العام 2016 حتى اليوم.
يتابع أبو الغيط فيقول: «حان الوقت لاستعادة العملية السياسية، لدينا اليوم ما يمكن البناء عليه»، ثم يضيف «كغيري أرصد دلائل مزعجة على تآكل مستمر لحل الدولتين»، قبل أن يختم هذه الفكرة بالقول: «يجب أن يشعر الفلسطينيون أن هناك طرفا شريكا لصناعة السلام بعدما ظلت أيديهم ممدودة للسلام دون أن تلقى آذاناً مصغية لدى الإسرائيليين»، وفي النقطة الأولى يبدو غامضاً ما ذهب إليه السيد أبو الغيط بقوله: «لدينا اليوم ما يمكن البناء عليه» فهل كانت مواقف الإدارة الأميركية الأخيرة التي تقول إنها تدعم حل الدولتين هو ما قصده، أم كان قصده أن حرب الـ11 يوماً غيرت الكثير من المعطيات والكثير من المعادلات والموازين، والراجح أن ما قصده هو الحالة الأولى الأمر الذي يعني أنه يرى «أن المؤمن يمكن أن يلدغ من الجحر نفسه ألف مرة»، وفي النقطتين الثانية والثالثة المتضمنتين لرصده «تآكل حل الدولتين»، والآذان الإسرائيلية المصمتة في مواجهة «الصراخ» العربي المطالب بالسلام خصوصاً ما بعد مبادرة السلام العربية في «قمة بيروت 2002»، ألا يحق لنا أن نسأل: لماذا تآكل حل الدولتين؟ ثم لماذا صمّت إسرائيل آذانها في مواجهة «الصراخ» العربي المطالب بالسلام؟ وإذا كان لنا أن نجيب يمكن الإيجاز بالقول إن استجداء السلام، عبر التاريخ، كان هو المدعاة الأولى لقيام الحروب، ألم تكن زيارة رئيس الوزراء البريطاني نيفل تشمبرلين، ما قبل الحرب العالمية الثانية إلى ألمانيا لاستجداء سلام أدولف هتلر هي التي دفعت بهذا الأخير لإعلان الحرب على بريطانيا وفرنسا العام 1939!، بعد أن قرأ هتلر الأمر على أن طروحات تشمبرلين ليست سوى دليل قاطع على وصول الوهن البريطاني إلى مرحلة تشجع على الاستثمار فيها فكانت الحرب.
نقطة أخرى تلفت الانتباه في طريقة عرض الأفكار، يقول أبو الغيط: «يجب الانتقال من ذهنية إدارة الصراع إلى ذهنية العمل على حله»، والقول يجب ألا يخرج عن سياسي له باع طويل في شتى ميادين صنع القرار، فالصحيح هو أن يذهب إلى القول بوجوب الانتقال من إدارة الصراع إلى العمل من أجل خلق توازنات قادرة على فرض معادلات جديدة تكون كفيلة لدخوله مرحلة الحل، فالتوازنات القائمة هي التي تحسم نتائج المعارك، أياً تكن سياسية أم عسكرية، حتى قبيل أن تبدأ المفاوضات في الحالة الأولى، أو قبل أن تبدأ البنادق برمي مقذوفاتها في الحالة الثانية.
ما نريد قوله هنا إن الأفكار عند كاتب المقال تبدو ضبابية في ذهنيته، أو هي أقرب إلى طروحات لا تليق بأن تسيل على لسان سياسي عريق لا يزال يشغل منصباً رفيعاً، وربما كانت تلك الضبابية تتناسب مع وقوع الجامعة العربية تحت تأثير القرار الخليجي بدءاً من مطلع هذه الألفية، الأمر الذي فرض بالتأكيد منهجية جديدة في التفكير، وآلية جديدة في طريقة التعاطي مع قضايا مصيرية من نوع القضية الفلسطينية التي لم يعد يصح تناولها إلا من قبل الشارع العربي الذي أثبت أنه المؤتمن الأول عليها، وهو يملك حسا ونزاهة يفوقان نظيرهما لدى جل الساسة العرب.