ثقافة وفن

«أيام عشناها» وثيقة الأيام الصعبة المستمرة … د. نجاح العطار: وجدنا أنفسنا وحدنا واعتمدنا على أنفسنا وحدنا وقررنا خوض المعركة وحدنا

| إسماعيل مروة

دروس التاريخ.. عِبَر الحياة.. مدرسة الغد.. تعابير عديدة تطلق على الأحداث التي يحياها الناس، وليس ضمنها وبكل تأكيد أن التاريخ يعيد نفسه، فالتاريخ لا يعيد نفسه، ولا يمكن للعقارب أن تعود إلى الوراء، ولكنه ما يحسن بنا أن نفعله هو الاعتبار، أو الاستشراف، أو قراءة المستقبل وفق معطيات الحاضر.. ومن هنا تأتي أهمية صدور كتاب السيدة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية (أيام عشناها- وهي الآن تاريخ) هذا الكتاب التوثيقي الحاضر بكل تفاصيله، والذي يرصد نصف قرن من الأحداث والمتغيرات المهمة التي مرّت بالأمة العربية عامة وسورية خاصة، وفي كل هذه الأحداث كانت السيدة العطار في موقع يسمح لها بالقراءة والمتابعة والوصول إلى الجوهر.

الحدث بين اليوم والأمس

ببيان عال ولغة نبيلة، وخبرة مسؤولة تبدأ الدكتورة العطار كتابها في قسمه الأول من الواقع العربي المرير الذي تعاصره، والذي يمثل صورة لما ستتحدث عنه في الدراسات والمقالات في هذا الكتاب «اليوم ندرك حقيقة مؤامراتهم هذه، وما حملته من أخطار لم نكن نتصور أن بعضها قابل للحدوث، بل كنا نؤمن أن لدى أقطارنا مناعة تحميها من السقوط، ولم يكن في الظن أبداً أن يتفكك التضامن العربي، ليحل محله تطبيع مع إسرائيل يستعلن..».

وتأكيداً على استمرارية المؤامرة، وعلى اتصال الأمس باليوم بالغد، تضع الدكتورة العطار مسوغات نشر هذه المقالات «أعيد نشر هذه المقالات لأنها تجسد الإدراك الواعي للمؤامرات التي حاكوها ضد أمتنا- لا ضد سورية فحسب، بل ضد أمتنا بكاملها، ورسموا خطوطها وشبكاتها تمهيداً لكل ما باتوا يحققونه في الراهن، وبشكل يستقيم لهم معه المسار المعادي، ويضمن النجاح الذي يحلمون به».

فالمخططات والمؤامرات ليست وليدة اليوم، ولا يعاد ما كانوا يرسمونه، وإنما هو مخطط متكامل وضع بالأمس البعيد لتفتيت الأمة كلها، وليس سورية وحدها، والغاية هي الوصول إلى ما وصلت إليه حال العرب اليوم، فما كان منكراً ومرفوضاً في مرحلة ما، لم يكن من الممكن تذليله والوصول إليه لولا ما تمّ من مؤامرات كبرى بدأت قبل أربعين عاماً.

وبالفكر الواعي والمسؤول لا تدّعي السيدة العطار أنها تنبأت بما يحدث الآن، ولكنها بالوعي النقدي رأت أن ما يجري اليوم كان متابعة ونتيجة، أنشر بعضاً من هذه المقالات التي كتبت في الماضي، وفي بداية الأيام الصعبة، لا لأنها تشبه النبوءة، ولكن لأنها تمثل البدايات الأولى للأحداث التي تلت بأشكالها المختلفة، ولأنها تضيء على ما يجري في الحاضر، مما أعدوا له وهم يختالون كبراً.. ولن يكون بمقدور أي دولة مهما سميت بالعظمى أن تحقق أهدافها المريضة، هي التي تخلو من المشاعر الإنسانية وتحيا دون ضمير، ولا يرف لها جفن مهما اشتد إجرامها وهمجيتها…

إن المقدمة تدلل بشكل قاطع بأن ما تحياه سورية اليوم منذ عقد من الزمن، وما يتم من تآمر عليها ليس وليد مصادفة، وليس ابن اليوم، وإنما هو مخطط أريد له من الدول العظمى أن يجعل إسرائيل سيدة المنطقة، وأن تصبح الدول العربية منطقة الشرق الأوسط، وكل ما تم تناوله، وما أشارت إليه الدكتورة العطار يراه كثيرون أمراً واقعاً، وبدأ بأخذ طريقه للتنفيذ وفق رؤية أميركا ورغبتها مجتمعة مع الدول الأوروبية وإسرائيل.. وكما أخفقت المؤامرة في بداية الأيام الصعبة تراها المؤلفة في طريقها للإخفاق «بالعزيمة الصادقة والإرادة الصلبة والإيمان بحقوقنا وبأننا نحن الحماة لهذه الحقوق نحن المنتصرين لوطننا وأمتنا وتاريخنا، وسيكون لنا الغلب مهما اكفهرت الظروف واشتد العدوان، وتعاظم البغي.

وسنتابع درب الكفاح غير هيّابين ولا يائسين بقيادة رئيس تسمو به التضحيات والبطولات هو الرئيس بشار الأسد».

إسرائيل.. وسورية تحارب وحدها

العام 1982 بيروت الجريمة تحت الأنقاض، وسورية تقاتل من أجل العرب ولبنان وسورية، ولبنان يتحدى الهمجية الإسرائيلية والاجتياح، والحرف الذي يأبى الاحتلال والدمار يطبع، والرسم المبدع يصدح، والمؤلفة تدون يومها ما شكل شهادة للتاريخ، وهل هناك فاصلة أخطر من اجتياح بيروت في رمزيتها ومكانتها ودلالتها ونتائجها؟ «في بيروت الغالية تصدر الصحف الوطنية بين الأنقاض، وتحت قذائف النابالم، أنني معجبة برباطة جأش محرريها، معجبة بافتتاحياتها، معجبة بصلابة وصوابية آرائها.. لكنني أتحدث اليوم عن رسم كاريكاتيري ثوري للرسام المبدع ناجي العلي تقول المرأة الحبلى التي تمثل الأمة العربية، لرجلها البسيط: نذر علي إن خلفت صبي، لأعلمه كيف يحارب الأنظمة المهترئة قبل ما يحارب إسرائيل».

هذا ما كان عام 1982، ومن رسم الشهيد ناجي العلي، والدكتورة العطار توثق اللحظة التي عاشتها، فإذا كان الحمل في بطن أمه منذوراً لقتال الأنظمة المهترئة فماذا عساه يقول حمل اليوم بعد كل الخيبات؟!

وفي دراسة أخرى تقف المؤلفة عند حلقة من حلقات تم التخطيط لها في الدوائر الاستعمارية للوصول إلى ما وصلت إليه الحال، وهي حلقة التسويات، فالتسويات والمعاهدات من سيناء كانت مدروسة وفق المنهج الكيسنجري للوصول إلى غايات محددة «دراسة لمعهد الدراسات الإستراتيجية في لندن لاحظت أن التسوية الأميركية لأزمة الشرق الأوسط، وفق اتفاقية سيناء ومدلولاتها تتطلب قبل كل شيء إضعاف انشغال العرب بإسرائيل إلى أبعد حد ممكن، عن طريقين: أولهما خلق انشغالات هامشية جديدة للعرب تحل محل الانشغال الرئيسي وهو مجابهة العدو الإسرائيلي وثانيهما عزل المقاومة الفلسطينية وإسقاطها كقوة قادرة على التحرك السياسي والعسكري» هذا الكلام العميق ليس من تحليل المؤلفة، وليس بتاريخ الحاضر، وإنما هو تحليل لدراسات قامت بها مراكز أبحاث ليست في مصلحة العرب، ودوّنت في وقتها، لتظهر عمق هذه الأحداث التاريخية التي عاشتها المنطقة العربية وسورية، وهي لم تتحول إلى تاريخ، وإنما كانت حلقة في سلسلة من الحلقات التي تبغي في النهاية إضعاف الأمة وقدراتها وتحويلها إلى لقمة سائغة للمتآمرين والأعداء..! وهل ما جرى حتى الآن يصب في أي زاوية غير هذه الزاوية؟!

إدراك المعركة والتحدي

جيل صار هرماً اليوم وننتمي إليه شهد تلك الأيام التي وصفتها الدكتورة العطار بالأيام الصعبة، والتي شهدت بداية المخطط وبداية التآمر على الأمة، ودوماً التعبير المستخدم هو تعبير الأمة وليس سورية وحدها، وعلى الرغم من شراسة الهجمة يومها إلا أن القليلين كانوا يؤمنون بنجاة سورية وخلاصها من هذا التآمر، ولكن معرفة المثقف المسؤول والمثقف الواعي جعل الدكتورة العطار، وذلك في العام 1977 تكتب دراستها نكون أو لا نكون، ولم يكن العنوان مبالغة، فنحن أمام معركة فيها من التحدي الكثير، ولا تخضع لأي طريق ثالث، إما أن نكون أو لا نكون..

«لنتعلم أن نغني لبلاد لا تريد أن تيأس».

إن الكفاح كما المروءات تقاليد، ومن تقاليدنا في الغوطة والأوراس وصعيد مصر، في الريف وحقول النخيل ومثلث فلسطين، أن نكافح، أن نرفض، كما الجسم الحي، كل جسم غريب، يريد أن ينغرز ويستوطن في أرضنا..

ونحن قررنا أن نكون

ليس أمانة للأجداد فحسب

ولا وفاء للشهداء فقط

بل إخلاص لوطننا وأنفسنا ووجودنا وأمتنا وكرامتنا أيضاً..

وسيضيع الغزاة، ويضيع أزلامهم، وتبقى هذه الأمة في كل ما أفاء اللـه عليها من شرف وأسبغ من نعمة..

فنحن على حد الحد نكون أو لا نكون

وقد قررنا أن نكون

وأن نغني لبلاد لا تريد أن تيأس..»

إن من شهد تلك الحقبة من تاريخ سورية والعرب، ومن عرف ويلاتها يدرك أن الأمر كان جدّ خطير، ولكن صمود سورية أمام التحديات جعل المؤامرة تتراجع إلى الوراء، ولكنها، أي المخططات، لم تتراجع نهائياً، ولم تعترف بالهزيمة أمام إرادة السوريين، لذلك أطلت من جديد بلبوس جديد مع بدايات 2011، والأحداث المتتابعة أثبتت أن هذا المخطط هو نفسه الذي بدأ العمل به بعد حرب تشرين التحريرية، واستمر في الثمانينيات لكنه أخفق ليعود تحت مسميات أخرى.. ولعل من الأهمية بمكان أن أقف عند إشارات واضحة لا لبس فيها تناولتها الدكتورة العطار عن المثقفين ودورهم ولا يمكن إغفال هذا الجانب، وهي المثقفة الخبيرة والمعنية بالثقافة والمثقفين، وكذلك المدركة لخطورة موقف المثقفين من عملية تهشيم الأمة وتحطيمها، وهذه المواقف إن كانت من الناس العاديين قد تجد مسوغاً، لكن المثقفين هم منارة الأمة، فكيف إن انهارت هذه المنارات وسارت عكس طموحات الأمة؟

عندها لا يكون الموقف فردياً، وإنما يكون مرتبطاً بثقافة وإرث ووجدان، لذلك وفي الدراسة نفسها نجدها تقف عند كبار المثقفين العرب بعد زيارة السادات للقدس وإجراءات الصلح مع الكيان الصهيوني وتفند هذه المواقف متجاوزة التاريخ الثقافي والفكري لكل شخصية، لأن التاريخ الإبداعي لا يمثل شيئاً أمام كينونة الأمة (نكون أو لا نكون).

«جان بول سارتر وألبير كامو وأراغون وإيلوار كانوا في صف العداء للألمان المحتلين،وكانوا في المقاومة ضدهم، وبعض كتّاب السادات يدعون إلى التعاون مع العدو.. ونحن نقول لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وباقي الكتاب الذين خانوا قضية الأمة العربية: يا للخجل».

لا أحد يشكك في القيمة الأدبية والإبداعية لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وبدرجة أقل يوسف السباعي، ولا أحد ينال من إنجازاتهم الإبداعية، لكن الأمر يرتبط هنا بالوطن والقضية وهو ما تريده المؤلفة، وهذه المباشرة في التناول تؤكد أهمية المثقف في كل زمان ومكان، وضربت لذلك الأمثلة من جان بول سارتر الذي تناهضه الحكومة الفرنسية، لكنه كان مع فرنسا ضد المحتلين، وكذلك في الحرب الفيتنامية حين اتحد الشعراء والمثقفون من أجل فيتنام:

«من أجل وطننا وعائلاتنا

ليس أمراً ذا بال أن نواجه الريح والمطر

ثقيلة هي الأعباء التي نحملها جميعاً

فيا للخجل من أولئك الذين لا يعرفون الصمود كرجال»

المغامرة المؤامرة مستمرة

في عام 1983 تدوّن الدكتورة العطار دراسة عن استمرار المغامرة الأميركية الإسرائيلية ضد سورية، وتتناول بالحديث الزمرة العربية المتواطئة معهما لعزل سورية، وتفصّل في الحديث عن لجنة كاهان وسواها، وتقول محذرة، طالبة عدم الانخداع بالمظاهر «إن الخطر ما زال قائماً، وعلينا إلا ننخدع بتمويهه قليلاً وعلى هذا يمكن ملاحظة أن هناك اتجاهين بارزين للمؤامرة التي تتبلور من حول سورية، رغم خلط الأوراق وإعادة خلطها، ورغم التمويهات التي تقوم بها كل من إسرائيل وأميركا والرجعية العربية» وتختم هذه الدراسة بعبارات حاسمة موجزة «هذا هو بالضبط، الوضع في الشرق الأوسط الآن، رغم محاولات خلط الأوراق، إنها المؤامرة على القضية الفلسطينية، وعلى سورية الصامدة وعلى الوجود العربي كله.. لكن سورية لن تكون لقمة سائغة لأحد، ولن يستطيع محاصرتها أحد أو أخذها بالقوة أو الخديعة».

قبل أربعين عاماً بدأت خيوط المؤامرة على القضية الفلسطينية وعلى سورية واستمرت المؤامرة وأوراقها المختلطة لسنوات طويلة، لكنها باءت بالفشل والإخفاق، ولم تتمكن من إنجاز ما تريد إنجازه ضد سورية.. والعودة إلى هذه المقالات والدراسات التي خطتها د. العطار تعد ضرورة للتأكيد على أن المؤامرة على سورية والحرب عليها اليوم ليست وليدة المصادفة، وإنما هي مخطط مستمر، وما علينا إلا أن ننتبه للأوراق وخلطها، وأن نشكل بنياناً قوياً في وجه المخططات، وأن نحدد عدونا وأن نكون أفراداً ومثقفين في صف واحد مع الوطن الذي لا نختلف على تحديده وسماته وماهيته مهما كان الموقف من الأشخاص والحكومات، لأن مواقف الحياة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، فها هو سارتر وكامو والحكيم ونجيب محفوظ يحضرون في المشهد اليوم، لكن كل واحد يظهر من الزاوية التي أرادها لنفسه.

وأخيراً

إن كتاب «أيام عشتها.. وهي الآن للتاريخ» للدكتورة نجاح العطار كتاب بغاية الأهمية فهو أولاً وثيقة تاريخية مهمة كتبت في حينها لتكون شاهدة على سنوات من الأيام الصعبة، ومن المستحسن أن نقرأها لنعرف بداية المخطط والتآمر.. وهو ثانياً قطعة أدبية فريدة يمكن أن ينهل منها قارئها المزيد من اللغة والأدب والصورة، وهو ثالثاً وقد يكون الأكثر أهمية يمثل الكتاب نموذجاً رفيعاً للكتابة السياسية التي تشكل منهجاً ومدرسة في الكتابة والتحليل والاستشهاد للوصول إلى النتائج بعلمية مطلقة..

كتاب يستحق الوقوف عنده، ولا يمثل نفسه أو زمنه بقدر ما يمثل الإنسان العربي والإنسان السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن