لا يخلو خبر صحفي أو تحليل سياسي، أو وثيقة أمن قومي لدولة في العالم، إلا والصين عنوان أساسي لها وجديد، وخيار للكثير من دول العالم، ولهذا نجد أن الولايات المتحدة الأميركية مصابة بحالة من الهوس، وما سمته الصين قبل يومين «جنون العظمة» بسبب النمو المتسارع للصين في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية وغيرها الكثير، وقدرتها على المنافسة، لا بل الدخول إلى الأسواق العالمية التي كانت لعقود من الزمن حكراً على الشركات الغربية، والأميركية منها، ولم يكن أحد قادراً على منافستها، فكيف بالحلول محلّها، وتقديم البدائل الأقل كلفة، والأكثر فاعلية، ولهذا فإن أغلبية مراكز البحوث الغربية، والأميركية تكتب بهوس عما سماه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب «الخطر الصيني»، وآخرون بـ«المنافس»، وبغض النظر عن التسمية فإن هاجس أميركا الذي لا يجعلها تنام قريرة العين هو الصين بكل وضوح وصراحة.
يتحدث كثيرون عن التجربة الصينية في جميع الجوانب، ولكن لا أحد يسأل من يقف خلف كل هذا النجاح، إلا وتوجد قوة سياسية، أو حزب سياسي قاد ويقود هذه التجربة لتحقق أفضل مواصفات النجاح! والجواب: بالطبع هناك حزب يقود الصين منذ قيام جمهورية الصين الشعبية، وهو الحزب الشيوعي الصيني، ولأن كلمة «الشيوعي» تستفز الغرب بكامله، وخاصة واشنطن، فإنهم يحاولون إلصاق كل أكاذيب البروباغندا الغربية فيه، لأن النجاحات التي حققها الحزب الشيوعي الصيني لشعبه وأمته، تُرفع لها القبعة، وتدحض النظريات الغربية التي تحدثت عن «نهاية التاريخ» بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وجزمت بشكل قاطع أن الليبرالية وقيمها هي التي سوف تسود العالم، وأن العولمة بنسختها الأميركية ستهيمن وتسيطر على كل الأنظمة السياسية في العالم.
لكن الصين وحزبها القائد تعلّم من تجاربه، وقرأ تاريخ الصين بعناية، واستفاد من الأخطاء التي ارتُكبت في مرحلة ما، داخل الصين، ومن أخطاء النموذج السوفييتي التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 بسبب الجمود العقائدي وعدم القدرة على قراءة الواقع والنهوض به، وتحول الحزب الشيوعي السوفييتي إلى عقبة أمام تطور البلاد بسبب تقديس النص على حساب الواقع الذي كان يتغير، ويتبدل مع تطور الزمن، والحقيقة أن الحزب الشيوعي الصيني قرأ بعناية منذ أواخر مرحلة سبعينيات القرن الماضي هذه المتغيرات، كما قرأ تاريخ الأمة الصينية خلال المئة عام الماضية، ليبدأ بتقديم نموذج يعكس عظمة تاريخ هذه الأمة، ولينقلها من أمة أغلقت على نفسها الأبواب، إلى أمة انفتحت على العالم بالتدريج، ولكن بنموذجها الفريد، الخاص بها، لتصبح أمة ملهمة لأمم الأرض في التنمية والتطور والنظام العام، والقدرة على الإبداع، ومن أمة تعرضت لكل محاولات الاحتلال والهيمنة واستلاب الإرادة والتبعية للغرب، إلى أمة قادرة على بناء علاقات مع الدول الأخرى على أساس الاحترام المتبادل، وتبادل المنافع، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام القيم الإنسانية وعادات وتقاليد الشعوب والأمم، وهو ما جعل الصين تدخل الألفية الجديدة بقوة مع كل هذا المخزون، وهذه التجربة، وهذا التطور والتقدم العلمي والتقاني، والقدرة على التكيّف مع المتغيرات العالمية، والعمل على إحلال الأمن والسلم الدوليين، واحترام القانون الدولي، ورفض كل أشكال الاستعمار والهيمنة الخارجية.
لكن السر وراء كل هذا التطور السريع الذي تحقق خلال عقود من الزمن، في حين أنه احتاج إلى أربعمئة عام في أوروبا، يكمن في القدرة على الاستفادة من كل التجارب العالمية، وتطويعها وفقاً للخصوصيات الصينية وطبيعة المجتمع والأمة، والتنوع الموجود، ففي عام 1978 أعلن الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني دينغ شياو بينغ عن شعارين مهمين: الأول: ابحثوا عن الحقيقة في الواقع. والثاني: التطبيق العملي هو المعيار الوحيد للحقيقة.
واعتبر شياو بينغ أن «أي نظرية لتثبت صحتها يجب أن تنجح من خلال التجربة العملية» أي إنه ليس المهم أفكار ماركس ولينين، وإنما المهم أن تلقى هذه الأفكار تطبيقاً عملياً، وتنجح، وكان شياو بينغ يقول: «ليس المهم أن يكون القط أبيض أو أسود، ما دام أنه يستطيع صيد الفئران، فهو قط جيد»، وبالتالي فإن هذا النظام الاقتصادي وهويته ليست مهمة ما دام هذا النظام يجلب الرفاهية للشعب، والقوة للدولة.
من هنا فإن الحزب الشيوعي الصيني اعتمد شعار «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، وتخلّص من شعارات «الاشتراكية الماركسية أو اللينينية»، بمعنى تخلّص من تقديس النصوص وانتقل إلى تقديس العمل، والنتائج وقصص النجاح التي تنعكس على حياة الصينيين وتحقق لهم المزيد من الرفاهية والصحة والتقدم والازدهار.
كانت هذه جوهر الفلسفة التي اعتمدها الحزب الشيوعي الصيني وحقق من ورائها نجاحات باهرة، وبالرغم من أنه لا يمكن لأي باحث موضوعي أن ينكر أن الصين استفادت من الانفتاح الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وهندسه آنذاك هنري كيسنجر، لكن الإبداع أن الصينيين أخذوا كل الخلاصات المفيدة من تجربة النظام الليبرالي الأميركي، وطوّروا نموذجاً خاصاً بهم، آخذين بالاعتبار خصوصية ثقافتهم، وإرثهم الحضاري، وعادات وتقاليد أمتهم، وواقعهم الاقتصادي والتنموي، ولم يستعجلوا في الوصول إلى المقدمة لأن الإصلاح وفقاً لما يرى قادتهم هو عملية تدريجية هادئة هادفة علمية، وليست على طريقة الزعيم السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف «العلاج بالصدمة» التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت نفسه كان قادة الحزب الشيوعي الصيني يدركون تماماً أن الولايات المتحدة تريد من وراء الانفتاح تحقيق أهدافها الخاصة بها، والمتمثلة بـ«أمركة الصين»، وهو أمر يقول الأميركيون إنهم فشلوا به فشلاً ذريعاً.
هناك جانب آخر مهم في تجربة الحزب الشيوعي الصيني تتمثل في أن مفكريه طوّروا على مدى عقود مقارباتهم الفكرية والنظرية والثقافية، ولم تستلبهم النظريات الغربية ومذاهبها الفكرية، كما أنهم طوّروا المقاربات الماركسية، واستخلصوا العبر والدروس، وعمّقوا تجربة الحزب في دراسة العلاقة بين النظرية والتطبيق من خلال ممارسة النقد المستمر، والأخذ بالاعتبار الخصوصية الصينية الثقافية والاجتماعية والتاريخية، ولهذا فإن المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد في تشرين الأول عام 2017 أكد خلاله الرئيس شي جي بينغ على «عدم نسيان الغاية الأصلية ودوام تذكر الرسالة، ورفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وتحقيق انتصار حاسم في إنجاز بناء مجتمع رغيد، وتحقيق حلم الصين المتمثل في النهضة العظيمة للأمة الصينية».
لذلك عندما يحتفل الصينيون بذكرى تأسيس الحزب الشيوعي الصيني فإنهم يحتفلون أيضاً بالإنجازات الهائلة التي تحققت اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وبالدور العالمي الصاعد لبلادهم، والذي لا يهدف للهيمنة على أحد، ولا لتصدير النموذج الصيني لأحد، ولكن لبناء علاقات تقوم على المنافع المتبادلة والاحترام لسيادة الدول واستقلالها، ولهذا يمكن فهم قلق أمين عام حلف الناتو قبل أيام عندما صرّح بعد اللقاء بالرئيس الأميركي جو بايدن بأن الصين لا تتشارك مع الأطلسي قيمه وهو أمر مقلق لهم.
بالطبع معه حق أمين عام حلف الناتو، لأن الصين أو أي دولة محترمة في العالم لا يمكن أن تتشارك بالقيم مع حلف لا عمل له سوى تدمير الدول، والشعوب والمجتمعات، ونشر الجريمة، ودعم التطرف والكذب والتضليل للهيمنة والسيطرة، والحقيقة أن قلقه مشروع أيضاً، لأن الصين تقدم لأول مرّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نموذجاً قادراً اقتصادياً وتكنولوجياً لكل دولة تبحث عن بديل للهيمنة الغربية، واستعباد الشعوب، وهنا تبرز اليد البيضاء للحزب الشيوعي الصيني الذي نجح في تقديم نموذجه، الذي يبحث عن شركاء لا أعداء، وعن أصدقاء لا محاور، وعن نظام عالمي جديد أكثر عدالة وتوازناً، وهنا نفهم لماذا يبرز القلق والخوف لدى أميركا وحلفها الأطلسي، والارتياح لدى الكثير من دول العالم.
تجربة الصين مهمة، ولكن علينا دائماً التصفيق لمن يقف خلف نجاحها وتميّزها.