ثقافة وفن

عبد الوهاب البياتي.. تاريخ شعر

| د. رحيم هادي الشمخي

إنه شاعر.. نعم.. إنه تاريخ شعر، نعم بداهة نرددها، ولا نمل تكرارها، فهو شاعر في الشعر وفي تأريخ الشعر وفي حاضر الشعب، كذلك في معارك الشعر.
وما أدراك ما معارك الشعر التي خاضها، ما بارز شاعر وقاتل في ميدان الشعر.. قدر ما فعل البياتي، لكم خاض معارك وتصدى لخصومات ولطالما خرج من أكثرها احتداماً وعنفاً أوفر عافية وعنفواناً، يتجدد في التوتر وينكمش في السكون لذلك ما رأى جيله ولا جيلنا ولا الأجيال التي تلته وتلتنا اندفاعاته ولا شهية كشهيته للمناكدة والمعاندة والصدام.
حين يواجه فهو يسير نحو هدفه لا شيء يحد من عنفه أو يتصدى لسهامه، مجافاته أبعد غوراً من مصافاته ضنين في إطراء أحد وإن فعل ذلك فمناكدة لثالث و(نغزة) لآخر يكتب شعراً ويخرج بعدها ليبارز.
لو ترك الأمر لشعره لكان الأمر أيسر عليه، لكنه والشعر يهجمان سوية، إنه يحب القتال ولربما القتال لذاته وإلا فلماذا يحارب العمالقة والصغار في آن واحد؟
إذا كان العمالقة يزاحمون القمة فلماذا الصغار؟ طوع فيه شاعر معارك إرضاءاته ليست يسيرة واستشارته هينة، ولكنه ليس ساذجاً في هذا وهو لا يستدرج لمعركة.. بل إنه ناشدها.. راغب فيها ما الذي يفعله البياتي بين قصيدتين؟ يستعد للجديدة طيعاً، ولكنه يعطي لدمه فورة ولانطلاقته وقوداً لتطغى عليه طباعه وعاداته المستحكمة فيخوض معركة، حينها يذهب إلى القصيدة تاركاً ضحيته أو ضحاياه (وهم يستحقون ذلك دوماً حسب قناعاته وشروحاته) فزعين مدانين، اسمهم على كل لسان (ليس افتخاراً) فلقد أحالهم إلى موضوعات تندر لا يعرف أحد كيف أتقن البياتي تصريف وقائعها، فلقد صنع ذلك بتؤدة، بإتقان، بقدرة صائغ ومهارة متابع، إنه عارف بمعاركه، عارف بتفصيلاتها، عارف بنتائجها، فليس الفشل في قاموسه. خارج هذا كله فهو الشاعر، حاضراً وماضياً، إنه البياتي، بكل ما له وما عليه (كيف أنجو من نتائج ما عليه!).
تأريخ شعري وأثر متمكن في بنية الشعر العربي وفي أقلام كثير من الشعراء.
يقول الشاعر البياتي: كم شهدت هذه الأرض من حروب وكم من دماء سالت، وكم من الكائنات استندت إليها في لحظات ضعفها فاحتضنتها في حنو ورأفة؟
الأشجار والزهور والحيوانات والملوك والقصور الشاهقة والبائسون والأكواخ الخاوية، كلها أقامت هنا زمناً.. زهت وأينعت ثم فاجأها الفناء دون أن تحسب لنهايتها أي حساب فألقاها على الأرض مضرجة بالدماء فتلعق هذه الأرض البهية دماءها ثم تخفيها في أعماقها وتحفظ سر حياتها وموتها دون أن تبوح به لأحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن