قضايا وآراء

تلاق أميركي – تركي في إدلب يستدعي القلق

| عبد المنعم علي عيسى

ثمة غيوم أخذت تتكاثف مؤخراً في سماء الشمال الغربي من سورية، وهي في مجملها اصطناعية، بمعنى أن ثمة قوى تعمل على توليدها تحضيراً لـ«الاستمطار» فوق تلك المنطقة التي باتت الآن في أتون تحولات خطرة، سوف تودي إلى أحد مسارين اثنين، فمثلما كان معبر باب الهوى بوابة للتدويل في سورية بعد سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة عليه عام 2012، قد يكون الحراك الاستباقي المحموم بداية تشير إلى نيات إقليمية – دولية لوضع «خريطة طريق» تقود، في مسار طويل، إلى وضع الرتوش الأولى لتسوية سياسية تبدو شديدة التعقيد.
بقيت ليندا غرينفلد المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة ما يقرب من أسبوع على حدودنا، والمدة الطويلة وحدها كافية لتثير القلق بعيداً عن التوافقات التي جرى الإعلان عنها في أتون تلك الزيارة التي كانت في مراميها أبعد بكثير مما جرى الإعلان عنه، والراجح هو أن مجرد حدوثها في هذا التوقيت يعتبر مؤشراً على ميل أميركي لتثقيل ملف الشمال الغربي من سورية على نظيره في شرق الفرات الذي يحتمل أن يشهد تطورات من النوع الإيجابي تفضي به، عبر صيغة ما، للعودة إلى السيادة السورية وخصوصاً إذا ما سار ملف النفط في الطريق الذي رسمت معالمه مؤخراً عبر قرار إدارة الرئيس جو بايدن تجميد الإعفاء من العقوبات الذي كانت شركة «دلتا كريسنت إينرجي» تعمل تحت رايته بعيداً عن «قانون قيصر» الذي خف بريقه مؤخراً، ما يشير، ربما، إلى حدوث نقلة نوعية في طريقة تعاطي بايدن معه، وبمعنى أدق اختلفت التصورات حول الأهداف التي يمكن الوصول إليها عبر ذلك القانون، ما استدعاه المشهد السوري الحاصل يوم 26 أيار الماضي، وما تلاه في مقبل الأيام والأسابيع.
في المناخات التي جاء في سياقها التحرك الأميركي الأخير يمكن القول إن هذا الأخير كان استباقياً لمواجهة «فيتو» روسي صيني متوقع ضد التمديد للقرار 2533 القاضي بإيصال المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى، والذي سيتم التصويت عليه في مجلس الأمن يوم 10 تموز المقبل قبيل انتهاء مدته بيوم واحد، وفي المؤشرات التي خلص إليها ذلك التحرك يمكن القول أن الجانبين توصلا لوضع الآليات اللازمة لمواجهة موسكو التي ترمي من وراء الفيتو المفترض إلى حصر دخول المساعدات الأممية عبر الحكومة السورية لتقوية مركزيتها والمساعدة في بسط سيادتها على أراضيها، وفي هذا السياق ذكرت وكالة «بلومببرغ» الأميركية في تقرير لها يرصد نتائج زيارة غرينفلد إلى تركيا أن «أنقرة وواشنطن اتحدتا لإحباط المحاولات الروسية الرامية إلى عرقلة وتقويض القرار الأممي المتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية إلى سورية»، أما البيان الصادر عن مكتب الرئاسة التركية فقال: إن الطرفين أكدا «ضرورة تلافي حدوث أي هجرة جديدة في سورية وخصوصاً في إدلب»، كما أكدا «أهمية استمرار دخول المساعدات الإنسانية الأممية إلى سورية عبر تركيا»، ومن الواضح أن التأكيد الأول يرمي إلى الإيحاء بوجود «فيتو» أميركي على أي عمل عسكري قد يقوم به الجيش السوري بمساعدة الحليف الروسي لاستعادة إدلب، مما كانت قد رجحته بعض المصادر في الآونة الأخيرة مستندة في ترجيحها لتحركات عسكرية في محيط إدلب كانت قد تزامنت مع تدريبات أجرتها بعض القطعات السورية بإشراف روسي، أما التأكيد الثاني فمن الواضح أيضاً أن أنقرة وواشنطن قررتا الوقوف في خندق واحد في مواجهة موسكو ودمشق.
في المستور الذي خلصت إليه التوافقات الأميركية التركية يمكن القول: إن أنقرة ضمنت، على الأقل، غض النظر الأميركي عن الممارسات التركية التي بدأت تباشيرها بعد ثلاثة أسابيع من توقيع الاتفاق الروسي التركي آذار من عام 2020 الذي أفضى إلى وقف لإطلاق النار في إدلب، وهو لم يزل صامداً على الرغم من وجود العديد من الاختراقات التي لا تشكل، كما يبدو، تهديداً لصموده، عندما جرى الاتفاق على إقامة محطة كهرباء على الحدود التركية السورية، الحدث الذي تلاه ربط بعض المناطق في إدلب بالكهرباء التركية، لكن التطور الأخطر كان قد حدث في غضون الأيام القليلة الماضية عبر إحداث أمانة عامة للسجل المدني في مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام»، والذي تزامن مع سحب البطاقة الشخصية والعائلية، واستبدالهما ببطاقة تركية، والخطورة إياها تزداد في ظل ميل أميركي لتلميع صورة «أبي محمد الجولاني» زعيم الهيئة سابقة الذكر.
يجب أن تذكر السياقات السابقة بسلوك تركي حدث في قبرص عام 1974، عندما أفضت العملية المسماة «أتيلا» في الشمال القبرصي إلى ظهور «ورم» تركي في الكيان القبرصي لم يزل قائماً حتى اليوم على الرغم من مضي ما يقرب من نصف قرن على قيامه، وعلى الرغم من أنه لا يحظى باعتراف أي دولة في العالم باستثناء تركيا، وقد لا تكون المحاولة التركية الراهنة لاستنساخ الـ«الاتيلا» القبرصية في الشمال الغربي من سورية بحاجة الآن للمزيد من الأدلة، فالسابق منها قد يكون كافياً.
في النصف الثاني من اللوحة، جرت في 8 حزيران الجاري مشاورات في وزارة الخارجية الروسية بين الأتراك والروس على مستوى الخبراء، والبيان الصادر عنها عام ولا يحوي أي تفاصيل مهمة، لكن الراجح أن الأتراك طلبوا إلى الروس عدم استخدام الفيتو ضد إدخال المساعدات الأممية إلى سورية عبر تركيا، ولربما أراد الوفد التركي استشراف الموقف، وكذا النيات، الروسية في أعقاب التوافق التركي الأميركي سابق الذكر، وبمعنى أدق الوقوف على الخيارات العملية التي يمكن أن تذهب إليها موسكو في ضوء هذه التطورات شديدة الخطورة على الكينونة السورية.
في الملحوظ فإن الروس لا يزالون يعتمدون مسار «أستانا» للوصول إلى توافقات مع أنقرة في المسألة السورية، وهو ما يمكن استشرافه بالإعلان عن جولة ستحمل الرقم 16 من ذلك المسار منتصف شهر حزيران الجاري في العاصمة الكازخستانية نور سلطان، والإعلان يمثل محاولة للتذكير بأن ذلك المسار لا يزال موجوداً، أما الوقائع فتقول: إنه بات في حالة «موت سريري» منذ خروج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من البيت الأبيض كانون الثاني الماضي، والموت الذي تريد إدارة الرئيس بايدن تحويله إلى «تام» مرده أن الأخيرة لا تريد راهنا الحديث مع موسكو عن سورية، لأنها لا تريد إعطاءها صفة «الندية» في مسائل إقليمية أبرزها المسألة السورية، ثم إن موسكو لم تكن «مطواعة» مع الطلبات الأميركية الخاصة بالصين، ولربما تريد واشنطن الآن القول إنها مستعدة للحوار مع أنقرة أكثر حول تلك المسألة، بل لربما مستعدة أيضاً للحديث مع السوريين أنفسهم تجاه مسألتهم التي تعنيهم أكثر من باقي شعوب الأرض.
مثل خيار كهذا يجب أن يكون من بين البدائل المطروحة، وهو خيار واقعي، والمؤكد هو أن لا اعتراض روسياً على قيام حوار سوري أميركي، لأن موسكو تدرك أنه لا بديل من قيامه، ثم إنه لن يشكل بالتأكيد مساساً بالمصالح الروسية في المنطقة عموماً وفي سورية على وجه الخصوص.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن