التاريخ الموغل في القدم، ومهما غصْتُ باحثاً فيه لا أصل، لأنه هو كذلك قبل كل شيء، إنه الفراغ بين مساحات عملي واستراحتي التي تدعوني للتفكر فيه، وتأمل الذي أريد أن أنجزه، إنه الأنوار والظلال، حيث أرى من خلالها مزارعيه وعماله وشوارعه وحواريه، التي تريني شرائحه البسيطة والفقيرة البائسة والغنية ذات القيمة والمفرطة من دون وازع، وأرى مديريه وساسته وما أنجز، وما لم يصلوا إليه.
ضمن كل ذلك، نجد الاتساع وحالاته الفاعلة والمنفعلة جيئة وذهاباً ضمن حدوده، تمثّل الأزاهير التي تلتقي بها نظراتي، والثمار الناضجة التي تطلبها صحتي، والأشواك المؤلمة التي تستوقف مسيرتي مستنهضةً غفوتي، إنها كل الأشياء التي تجسد الثقة المرسومة في السماء، التي تطالبني بتحقيقها على الأرض، حيث تدعوني لأنسج حولها أسباب وجودي المولدة لحناني وبقائي، فالله ووطني متحدان، أراهما على أطراف الغابة المتألقة بعفويتها والجبال الشامخة ونظم صمودها والرمال الغافية في أحضان البوادي الشاسعة، إنهما وطني بأبنائه بشيبه وشبانه، بوعد أطفاله وانتصارات أفكار أناسيه، ومعهم أؤمن فيه بفرحي وحزني، رغم أني لست متأكداً من إيماني بالله عندما أكون مضطرباً أو منفعلاً أو تعساً، الله الذي أريد أن أعوده بالحبّ لا بالخوف، وبالأمان لا بالرهبة، وبالثقة لا بالتواكل، لأنه لغة القلب والوطن، لغة العقل الذي لا يتردد بين حبّين، لكن القلب بكونه ينبض، فهو مركز التردد، وهنا أنا لا أشك، ولا أكفر، ولا أريد أن يأخذ شكلهما مظهر الآنية المشعورة، التي ومهما حاولت لا يمكن أن تعود لشكلها الأصلي، فلا توجد راحة صغيرة ولا يقين هزيل، لأن الحاضر ممتلئ بالبيان، يكفي أن تلتقط منه ما تريد، والأفضل أن يكون الصح، رغم أن اختيار الخطأ وارد بإرادة أو من دونها.
من المجرب أن أي فكرة لا تنضج في فكر حاملها إلا بعد الاطلاع على السائد في الماضي، ومن ثم ضمن الحاضر، فإذا وصل إلى ذلك، يستطيع أن يجد لها مساحة بينهما، فتصبح في الغد وثيقة، لذلك أجد أن فكرة الوطن برنامج وجود، والوجود دلالة على الحياة، فهو لا يريد لذاته شيئاً؛ أي خذ ما شئت منه شريطة أن تبني عليه، وتعمل لك عليه وجوداً من خلاله، فهو بشكل أو بآخر يجسد لك مساراتك وخياراتك، وفي الوقت ذاته، لا يرفض لأحيائه شيئاً سوى الحياة، بنشاط ينتظر نهايتنا، ليضمنا فيه، محولاً إيانا إلى ثراه، فيقول عنه الأحياء: ما هذا الثرى إلا من تربة الأجداد، وعندما يرى مواطنيه يبتسمون، يعلم أن في ذلك الحياة، وأن الذي يخونه يخون نفسه، وإن تمزج نفسك مع الله والوطن تكن قد حققت وطنيتك، فلا شيء يغني عن الوطن، كما أنه لا شيء يغني عن الله، اختلفنا أو اتفقنا، أدعو دائماً ما أخطه للنقاش، شريطة أن نصل إلى الإيمان بالمشتركات الإنسانية والنقاط، وهي أفكار جديدة تفيد الحياة الحاضرة دوماً بين الوطن والله.
هيا بنا نرتل القرآن، ونرنِّم الإنجيل، ولنعلِ راية الإصلاح والتطوير والإعمار، لأننا لم نعمل بحق لوطننا وبعضنا خيراً، لنستدرك ما فاتنا، ولنتعلم من أخطائنا، فإن لم نفعل فستبقى خطايانا وآثامنا تهيمن علينا، ولن يظهر الله من على عرشه، ليعفو عنا إلا إذا ندمنا، وتعاهدنا على وقف الفساد والإفساد، والنهب والسطو، والقتل والخداع، وفكر الالتجاء إلى الآخر، لأن الوطن يشكونا إلى الله وإلى خليفته على أرضنا ووطننا، الذي اختصه بنا، بكونه كلياً على الكون، ووطننا جزء من أرضه الكلية التي تذهب إلى الله، أو يدعوها إليه، إن أصابت أو أخطأت، ومن خلالها لا يظهر عفوه على أبنائها، الذي يلهمه إلى خليفته، إلا إذا وصلوا إلى الطهر، وتمسكوا بأفعال الحب والبناء، وبما هو جيد وخلاق ومفيد.
عندما نؤمن بالوطن نكون مدعوين للإيمان ببعضنا والعمل عليه بعملية ووجدان، وفي الوقت ذاته، نجده يدعونا للتخلص من الخرافات والمظالم، تلك آفات التخلف، وكما هو الله بإرادته التي تدعو للحب والعلم والعمل ونبذ التشدد والعنف في الأديان المنتشرة، فلأن دين الله الوحيد هو الحب، كما حال الأرض التي لا تؤمن إلا بالعمل.