اقتصاد

سماسرة المكاتب العقارية يتقاضون قرابة ترليون ليرة سنوياً … ماذا ينفعنا الاقتصاد الإنتاجي أم الاقتصاد الريعي؟

| طارق الأحمد

لكي نجيب على هذا السؤال المركزي لا بد لنا أولاً أن نحدد مفهوماً جوهرياً هو هل نريد اقتصاداً ريعياً أم إنتاجياً؟

الفرق بين الاثنين هو فرق جذري وتحدده سياسات البلد، وهو جذري إلى الحد الذي يتجاوز فيه سن قانون ضرائب فقط بل هو منهاج عمل كامل وهو في الاقتصاد أشبه باللسان في اللغة، كأن تقول اللسان اللغوي اللاتيني أو اللسان الصيني أو اللسان اللغوي العربي.. أي إن الباقي كله تفريعات عن الأصل.

لماذا اضطر لهذه المقدمة؟

لأنني وجدت أن المشتغلين في حقل الاقتصاد وخاصة لجهة سن التشريعات والقوانين ووضع آليات تطبيقها، إنما يفعلون ذلك بغير قناعة حقيقية ويسوقون التبريرات المتنوعة فنجد أن المسؤولين يبادرون إلى انتقاد قوانين صاغتها الحكومة وأقرها مجلس الشعب.

هذا يدل على عدم وجود الفهم الجذري والكافي للمشتغلين في هذا الحقل من مسؤولين وكوادر علمية وفنية وإدارية والكوادر الخبيرة، التي عليها كلها تقوم مهمة صياغة القانون بأكمل وجه ومن كل الجوانب والنقاش حول الثغرات الممكنة وتلافيها، وأعني ههنا كمثال قانون البيوع العقارية الذي قرأنا تصريحات ناقدة نقلت على لسان وزير المالية نفسه له.

أي اقتصاد نريد؟

هذا السؤال يجب الإجابة عنه أولاً.

هل الاقتصاد الريعي ينفع لسورية؟

أيضاً هذا سؤال مهم.

نعم ثمة دول حققت أعلى معدلات دخل في العالم مثل سنغافورة ودبي الخ.. لكن هنا يكون القرار السياسي تابعاً لدول الغرب ولا أريد أن أسهب في الشرح فهذا يجب أن يكون واضحاً بعد 10 سنوات حرب على سورية كان من أهم أهدافها ضرب بنيتها الإنتاجية الممثلة بـ115 ألف منشأة صناعية غير ملايين الأطنان السنوية من إنتاج القمح والقطن والزيتون والحمضيات وووو الخ.. حتى الوردة الدمشقية التي كانت تشق طريقها لتحجز مكاناً على موقع الدخل الوطني بعد العناية بها.

إن العقل الذي يفكر وفق الاقتصاد الإنتاجي لا ينسى بدوره الخدمات بالتأكيد لا بل يمكن أن تؤمن البنية الإنتاجية استقراراً أعلى بكثير للسياحة مما تروج له الأقلام التي تدعو إلى النوع الآخر وأهم مثال من الدول الأوروبية هو ألمانيا وإيطاليا، حيث إن إشغال فنادقها يعتمد بشكل رئيسي على زوارها للمعارض والشركات ويأتي السياح كمكملين، فيصبح حتى العمل الفندقي أرخص كلفة لأنه يغطي كل العام، والسوريون غالباً ما يشتكون أن تكلفة الاصطياف في اللاذقية وطرطوس لليلة واحدة تتجاوز ما يشاهدونه في إعلانات الدول الأجنبية.

قانون ضرائب عصري

إن سن تشريع عصري ومدروس وذكي للضرائب في سورية وشامل هو كفيل حقيقة الآن وبعد 10 سنوات من الحرب وبعد تحرير معظم الأرض، أن يحوّل سورية بإمكاناتها الذاتية من حالة العوز والتراجع في النمو وحالات إغلاق المنشآت التي توسعت بل افتتح الكثير منها حتى أثناء الحرب، لكنها تقفل نتيجة تخبط الإجراءات الحكومية تجاهها عدا عن الحصار.

أولاً: ليكون التوجه واضحاً يجب أولاً أن نكون على بينة من حركة الأموال الحقيقية في البلد ونفك القيود المزمنة التي كبلنا نحن الاقتصاد بها مثل الضريبة التي يدفعها موظفو الدولة مثلاً وهي تثير العجب حيث يجب أن يكون المعيار الأول هو قيمة هذا الدخل نفسه أي أن يوضع معيار متغير للدخل الواقعي للأسرة السورية يراعي تغير الأسعار، وبنتيجته لا يوجد أي معنى لدفع كل من ينقص دخله عن هذا الحد لأي ليرة سورية لا في القطاع العام ولا الخاص، وهذا ما سيوفر عبئاً عن كادر الوزارة نفسها بيروقراطياً.

ثانياً: الواقع الحالي لمن يدركه يعلم أن في البلد حركة أموال كبيرة ولا أريد الدخول في التحليلات حولها وأن حركة الاغتراب السورية الضخمة هي عامل مؤثر بها، لكنها تنحو نحو وضع الأموال في بنود التحوط وليس الإنتاج وهنا الكارثة.

التحوط في الدولار والذهب والعقارات وحتى السيارات يعني حرمان الإنتاج من حركة المال.

أي وبدلاً من توجه الشخص نفسه لتأسيس منشأة صناعية بـ10 مليارات ليرة مثلاً تشغل 50 عاملاً وتوفر استيراد سلع وتصدر سلعاً الخ..

أو يستثمر في مشروع زراعي البلد أحوج ما تكون لهذه الأموال لتتدفق إلى هذا القطاع لسد فجوة الغذاء، فيلجأ إلى شراء عقارات تجمد المال ويزيد المضاربة على هذا السوق الذي أصبح جنونياً.

وفق تصريحات وزير المالية الأخيرة وهي منشورة فقد قال إن حركة البيوع العقارية كانت تناهز 30 ألف عملية بيع شهرياً أي 1000 عملية بيع يومياً ووفق تصريح آخر فإن معدل السعر قد بلغ 122 مليون ليرة سورية للبيعة الواحدة.

كما هو معلوم فإن قطاع السمسرة أي المكاتب العقارية تتقاضى 2 بالمئة عن كل عملية أي أكثر من مليوني ليرة سورية أي ملياري ليرة يومياً أي يمكن أن يصل إلى تريليون ليرة سورية سنوياً. على حين لا تتقاضى وزارة المالية ما يستحق ذكره بالمقابل.

السؤال هنا هو بمثابة مفترق طرق:

فإنك إما أن تتوجه لوضع الضرائب على الاقتصاد الإنتاجي أو الاقتصاد الريعي.

الأول الإنتاجي يعني الموظفين وصغار الكسبة كما يقال في الأدبيات الاشتراكية والذين يقل دخلهم عما هو كاف للعيش أي عن 20 مليون ليرة سورية سنوياً تقريباً أو أي دراسة تحدد الرقم فعلياً.

كما عن أصحاب المصانع الذين قاوموا أصعب الظروف أثناء الحرب والصناعي للحق يختلف عمن يضع رأسماله في مأمن، لأن في المصنع عمالاً وبضائع وحركة ناس، والصناعة هي القاطرة الاقتصادية التي تؤمن الاعتماد على الذات والصمود الاقتصادي بل والتصدير وتحقيق الوفر للبلد، وبالتالي فالسياسة الأولى أن تتبع هي حضانته وتأمين التسهيلات له وإعفاؤه حتى من الضرائب حتى يتعافى الاقتصاد وأنا أتحدث هنا عن الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتشكل جل صناعات البلد وليس عن كبار المكلفين وهذه لها معاييرها المعروفة.

تجارب الدول

غالباً لا أحب الاستشهاد بالدول المتقدمة إلا على سبيل الاستزادة وليس التقليد فلكل دولة ظروفها.. ففي الولايات المتحدة الأميركية كل الناس مكلفون ضريبياً حتى من يعيش خارج أميركا يقوم بدفع الضريبة حتى عن عمله في الخارج، في المقابل يتم إعفاء كل دخل يقل عن 18000 دولار سنوياً.

في النمسا تدفع الضريبة عن كل شقة تسكنها أو تؤجرها أو لا تؤجرها.

الاقتراح

بعيداً عن شواهد الدول فهي عديدة لكن ما يناسب سورية هو وضع سياسة ضريبة تتوجه نحو جميع القطاعات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة بالإعفاء من جميع الضرائب لمدة 3 إلى 5 سنوات على الأقل أسوة بقانون الاستثمار الجديد الذي يمنح الإعفاءات للمستثمر الخارجي فالأولى هو إعفاء الداخلي الذي صمد وبقي منتجاً.

لكن بالمقابل تعديل قانون البيوع العقارية لكي يشمل كل العقارات المجمدة وكثير منها مغلقة ويمتنع أصحابها عن وضعها في الاستثمار وهي ملك للوطن كما هي ملك للفرد ولا يجادل أحد في ملكيتها الفردية ويجب وضع ضريبة تصاعدية تعفي المالك من أول شقة للسكن لكنه يدفع عن الثانية فالثالثة تصاعدياً، ولمن يجادل بالملكية الفردية فعليه أن يتخيل حق من يشتري شارعاً بأكمله ويغلقه، هل سيكون ذلك من حقه؟

لو كان لدينا مسوحات إحصائية دقيقة لتكشفت الأرقام عن وجود آلاف الشقق الفارغة المغلقة التي لا يستفيد المجتمع منها بشيء منذ عقود.

هنا ستكتمل الدائرة ويندفع أصحاب الشقق لوضعها في الاستثمار بيعاً أو تأجيرها ويستفيد المجتمع والدولة وتنخفض الأسعار الجنونية.

كما يقدر أن يتحقق دخل ضريبي للدولة يفوق أضعاف ما تحصده الآن من سياستها الضريبية الفاشلة حالياً والضارة بالمنتجين، طبعاً هي فاشلة لأنها تفشل منذ سنوات في تحقيق هدفين الأول هو إيجاد موارد للدولة وما تحصده حالياً هي أرقام هزيلة بالنتيجة، والثاني أنها تؤدي إلى إحجام المنتجين عن العمل والتطوير وليس المثال حول صناعيي حلب وحيداً بل لقد علمت عن عشرات الأمثلة الشبيهة ممن تيسر لي الحديث المباشر معهم لأنني لا أكتب المقالات من دون أدلة ورؤية واضحة.

نعم نحن بحاجة ماسة إلى فتح الحوار الشامل في مؤتمر اقتصادي يضع الرؤية لما علينا أن ننهجه في المرحلة المقبلة، فإما أن نعيد إعمار سورية بأموال وأياد سورية ونحن قادرون أو أن يأتي مال خارجي لا يقل خطورة عما أتى بعد اتفاق الطائف في لبنان ولو بأشكال أخرى، ودليلي على ذلك ما كتبته حول المشاركة القطرية الكبيرة في مؤتمر سان بطرسبورغ الاقتصادي الأخير بوفد ضم 500 مشارك، وما أدراك أن يأتي مال الاستثمارات القطري الأميركي بوجه روسي من عند حليفنا الذي وقعنا معه أكبر الاتفاقيات التفضيلية الاقتصادية تحت عنوان التوجه شرقاً، وخاصة أن الروسي ليس لديه فائض نقدي وهو يعلن سياسته في الشراكة مع الأموال الخليجية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن