قضايا وآراء

تموز اللاهب في القرن الإفريقي

| عبد المنعم علي عيسى

في أعقاب إخفاق الجولة الأخيرة من المفاوضات المصرية السودانية الإثيوبية بشأن «سد النهضة» يقول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن «لا أحد يستطيع المساس بحق مصر في مياه النيل» ليضيف محذراً إن «ذلك المساس خط أحمر»، قبيل أن يتابع بلهجة لا تخلو من نفحة التهديد «من يريد أن يحاول، فليحاول، وستكون هناك حالة من عدم الاستقرار في المنطقة بكاملها، ولا أحد بعيد عن قوتنا».
ثم قال وزير الخارجية المصري سامح شكري في 22 من أيار الماضي إن «إثيوبيا إذا ما أقدمت على الملء الثاني لسد النهضة دون اتفاق شامل، تدخل مرحلة الخروج عن القانون الدولي» والإشارة هنا بالغة الدلالة حيث يصح اعتبارها نوعاً من تهيئة المناخات لأي إجراء يمكن أن تذهب إليه القاهرة لوقف الإضرار بأمنها المائي الذي سيخلفه ذلك الملء المقرر شهر تموز المقبل بالتزامن مع موسم هطل الأمطار على روافد نهر النيل.
أعقبت تلك التصريحات مناورات مصرية سودانية استمرت لخمسة أيام ما بين 26 – 30 أيار الماضي كان قد أطلق عليها اسم «حماة النيل»، وهي الثالثة من نوعها خلال بضعة أشهر، والمناورات العسكرية كثيراً ما تعتبر صندوق رسائل لخصم يشكك في نيات خصمه أو قدراته.
هذه المواقف المصرية النابعة من تهديد الأمنين المائي والغذائي المصريين، بل وتهديد الكيان المصري برمته عبر الصورة التي عرف بها على امتداد التاريخ، لم تدفع بأديس أبابا إلا إلى مزيد من التعنت والتصعيد، ففي 31 أيار الماضي أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أن «بلاده ستبني أكثر من 100 سد مائي صغير في مناطق مختلفة في خلال السنة المالية القادمة»، وفي 5 حزيران الجاري نقلت وكالة الأنباء الإثيوبية عن القائد العام للقوات الجوية الإثيوبية أيلمما مرداسا قوله: «إن هناك تعزيزات قوية للقوات الجوية الإثيوبية حول سد النهضة أقوى من أي وقت مضى»، قبيل أن يختم بتعهد قواته بـ«حماية السد من أي عدوان».
هذا التصعيد المتبادل المسبوق بتصلب مصري سوداني في المفاوضات، لربما تلمست فيه إدارة الرئيس جو بايدن ملامح ولوج مباشر إلى نزاع عسكري يبدو مرجحاً قياساً للمعطيات، وهو الذي أجبر الإدارة سابقة الذكر للخروج من حالة النأي بالنفس عن الصراع الدائر في منطقة القرن الإفريقي المهددة بالانزلاق نحو توترات لن تكون المصالح الأميركية بمنأى عن شظاياها، وفي هذا السياق كانت الزيارة التي قام بها المبعوث الأميركي الخاص للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان إلى كل من مصر والسودان وإثيوبيا ما بين 4 إلى 13 أيار الماضي، حيث أصدرت وزارة الخارجية الأميركية في أعقابها بياناً جاء فيه أن فيلتمان أكد في مناقشاته مع القادة في القاهرة والخرطوم وأديس أبابا أنه «يمكن التوفيق بين مخاوف مصر والسودان بشأن الأمن المائي، وسلامة تشغيل السد مع احتياجات التنمية في إثيوبيا، من خلال مفاوضات جوهرية وهادفة في إطار قيادة الاتحاد الإفريقي»، وفي الختام جاء في البيان أن «منطقة القرن الإفريقي تمر بنقطة انعطاف، وأنه سيكون للقرارات التي ستتخذ في الأسابيع والأشهر المقبلة تداعيات كبيرة على شعوب المنطقة، وكذلك على المصالح الأميركية فيها».
من الواضح أن المحاولة الأميركية تسعى إلى تجنيب القرن الإفريقي صيفاً لاهباً، قد يكون من بين تداعياته، إذا ما نشب صراع عسكري فيه، دخول إثيوبيا في حرب أهلية قد تفضي إلى تفتت جغرافيتها، فمنذ العام 2020 دخلت الأخيرة في إضرابات واسعة لم تنقطع، وإن لم تكن وتيرتها تسير على رتم واحد، والحدث جاء في أعقاب نشوب نزاع مسلح بين الحكومة المركزية في أديس أبابا وبين إقليم تيغراي في شمال البلاد، الأمر الذي أدخل إثيوبيا في أزمة سياسية كان من نتيجتها تأجيل الانتخابات التي كانت مقررة شهر حزيران الجاري، والأزمة قد يشتد أوارها بفعل عاملين اثنين، أولاهما الأزمة الاقتصادية المتصاعدة خصوصاً بعيد إعلان الولايات المتحدة تعليق مساعداتها لإثيوبيا، وثانيهما التوتر الحاصل في ملف سد النهضة وما يمكن أن يفضي إليه، وبقاء الحال الراهنة من التوتر سيكون له تداعيات خطرة على الداخل الإثيوبي التي لن تنفع معها محاولات الحكومة الراهنة الرامية لشد عصب الجبهة الداخلية تحت راية الدفاع عن مصالح الإثيوبيين في التنمية والازدهار.
من الممكن قراءة ما كشفت عنه وزارة الموارد المائية المصرية مؤخراً، والذي تضمن معلومات تقنية غاية في الدقة عن سد النهضة، على أنها محاولة مصرية أخيرة لتبيان أحقية المصريين في دفاعهم عن أمنهم المائي، فالتقرير الصادر عن تلك الوزارة احتوى معلومات كثيرة بحاجة إلى اختصاصيين لإيجاد تراجم لها، لكن أهم ما جاء فيه «أقصى منسوب للمياه بالسد الإثيوبي هو 645 م، وأقصى منسوب للتخزين هو 640 م، ومنسوب قاع النهر عند السد 500 م، أي إن ارتفاع السد الرئيس 145 م، وأقصى ارتفاع للتخزين هو 140 م» وهذا يعني سرقة موصوفة وفق القوانين الدولية الناظمة لاستثمار الموارد المائية ما بين الدول المتشاركة فيها.
من الصعب تخيل سيناريو يمكن أن يفضي إلى قيام كل من مصر والسودان بعمل عسكري يهدف إلى تدمير جسم السد، لاعتبارات تقنية كان قد حذر منها العديد من خبراء البلدين، بل وذهبوا في عرض الأخطار التي يمكن أن تصيب البلدين في حال إقدامهما على فعل من هذا النوع، إلا أن الخيارات العسكرية لا تقف عند حل من هذا النوع، وهي من الممكن أن تذهب باتجاهات عدة، من نوع ذهاب البلدين نحو إذكاء الصراع في تيغراي، أو القيام بعمل بري يهدف إلى إسقاط الحكومة الإثيوبية، مما يمكن تبريره عبر «خروجها عن القانون الدولي» آنف الذكر، الأمر الذي يعني عندها نهاية للخيارات التي اعتمدتها تلك الحكومة في تعاطيها مع سد النهضة، ورادعاً لأي حكومة يمكن أن تخلفها، فالفعل بالتأكيد سيدفع بهذي الأخيرة المفترضة نحو تبني سياسات أكثر مرونة تجاه أزمة مستعصية تهدد الاستقرار في منطقة تشهد بالأصل حالة من اللاستقرار يزيد منها التدخلات الأميركية، والإسرائيلية على حد سواء، والكل يجري حساباته من باب الحفاظ على مصالحه فيها، فيما أهل المنطقة ماضون في تناحرهم الذي لن يكون خادماً لمصالحهم.
ستكون منطقة القرن الإفريقي على موعد مع تموز لاهب، وفيه ستكون تلك المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات التي قد تعيد رسم معالمها بدرجة قد تصل إلى تغيير في الخرائط الراهنة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن